عشرُ سنوات مرَّت على أحداث أكتوبر، 13 شهيدًا سقطوا في أسبوع المواجهات... غابوا، لكنَّ قصصهم لا تزال حاضرة. ثلاث أمهات، من 13 أمَا، تستعدن قصة الشهادة، وكأنها حدثت بالأمس. أمٌ لا تصدّق أن ابنها غاب "سنلتقي حتمًا" وأخرى لا تزال تقلّب دفتر المذكرات، لترى ابنها مبتسمًا في الصورة، وثالثةَ تشعر بأنَّ إبنها لا زال يتحرك في زوايا البيت...هنا عاش الشهداء، ومن هنا غابوا.

إقترب الطبيب منها ونظر الى الآخرين قائلاً: "أخبروها"
في الثامن من أكتوبر، سافر وسام يزبك بصحبة خاله إلى مدينة طولكرم. كانت الإنتفاضة الثانية بأوجها. على مدخل المدينة كان الناس منتفضين: إطارات محروقة وطرق مغلقة. قال وسام لخاله: "خالي ما بدنا نموت" وعادا إلى الناصرة.
تقول أم وسام، وقد اعتصر قلبها حزنًا على الذكرى: "صلّى وسام وخاله صلاة المغرب معًا، وتجولا معًا في الناصرة، وفي وقتٍ متأخر انفصلا، ذهب وسام الى اصدقائه يتابع المشهد الحاصل في مدينة الناصرة وإقترب من المنطقة الفاصلة بين نتسيرت عيليت والناصرة، وقف مع شابين آخرين في صفٍ واحد، كانوا يرمون بالحجارة باتجاه نتسيرت عيليت، فقد خطفته رصاصة في رأسه، وأصابته رصاصة ثانية، واستشهد".
حتى تلك اللحظة، لم تصل الأنباء إلى بيت، رنّ هاتف المنزل وردّت أم وسام، كانت شقيقته على الخط الثاني، سألت أمها عن شقيقها فردّت "ذهب مع خاله" وعاد الهاتف ليرنَّ مجددًا، إنهم أصدقائه هذه المرة يسألون عنه،"ساورني القلق، ومن بعدها جاء البلاغ، إنه في المستشفى الانجليزي"

ظنّت أم وسام أنَّ ابنها هو ذاك الشاب المستلقي جريحًا على أحد الأسرّة وسرعان ما تبين أنه ليس هو وبعد كشف الأسماء في المستشفى تبين أنه نقل الى مستشفى "رمبام".

سافرت أم وسام بصحبة الأقارب، والتقت شقيقها عند مدخل المستشفى، شدّ على يديها ولم يقل شيئًا، إنه "مشهدٌ لن أنساه في حياتي، يدٌ باردة تضم يدي". في غرفة الانتظار، إقترب الطبيب منها ونظر الى الآخرين قائلاً: "أخبروها"، قالت ام وسام: "ماذا عليهم ان يخبروني؟"، أجاب الحاضرون: "وسام استشهد."

تحكي أم وسام وكأن السنوات العشر لم يمرّوا: "لا أحب ان يقولي لي إنه مات، سأظل اؤمن بأنه سيعود إليَّ أو أنني سأذهب إليه".
قلبٌ صغيرٌ تحمله ام وسام بين الضلوع، صارَ ضعيفًا، هشًا، غير قادر على التحمّل. صار البكاء وسيلتها الوحيدة للترفيه عن نفسها الجريحة. الجرح لم يندمل، خصوصًا وأنَّ السلطات الإسرائيلية برأَّت ساحة المجرمين، و"عاقبتنا نحن، ذوو الشهداء" تقول.
تقول ام وسام: "باتت حياتنا مجبولة بالسياسة، في مواجهة 90% من اليهود العنصريين، شبابٌ بعمر الورد، أكبرهم في السابعة والعشرين من العمر، ومعظمهم أقل من عشرين سنة، قتلوا بكبسة على الزناد، بلا ذنب! الله يحرق قلب اللي حرق لي قلبي ولوَّعني على إبني".
وزادت: "قبل يومين فتحتُ دفتر المذكرات وقرأته، ونظرت الى صوره وبكيتُ طويلاً، وفي الليل جاءني مبتسمًا، لا زلتُ أسعد بلقاء الليل، وأحب العتمة، لأنها الدرب الوحيد الذي أرى فيه ابني امامي، وسيمًا كما رحل".

"أحيانًا أشعر بأنه جالس بقربي، يتحرك معي في البيت"

في بيت الشهيد عمر عكاوي مشهدٌ مختلف، صور الشهداء تغطي الحائط، صحفٌ قديمة، أشخاصٌ رحلوا، شيءٌ ما يشعر بالبرد، رغم إغلاق النوافذ، عبقُ الراحلين في المكان.

استشهد عمر في الثامن من أكتوبر 2000، إستيقظ متأخرًا، فقد أمضى أسبوعًا كاملاً بلا عمل، لم يأتِ صديقه جميل ليوقظه، يومها رنّ هاتف البيت في ساعات الصباح، فردت أم ابراهيم، والدة عمر، فطلبت منها ابنتها جميلة، التي تعمل في رمات يشاي، أن تسافر اليها لتعطيها مفاتيح السيارة بعد أن نسيت المفاتيح في قلب السيارة وأغلقتها. سافرت الأم اليها وسلمتها الأمانة وعادت الى البيت عصرًا فلم تجد عمر في البيت.
زارَ عمر أصدقائه وجيرانه في حي "شيكون العرب"، عند التاسعة وعشر دقائق نزل الى مكان الحدث في المنطقة الفاصلة بين الناصرة ونتسيرت عيليت مقابل مجمع "ليف هعير"، واستقرت الرصاصة في قلبه، قبل أن يتمكن الآخرون من تحذيره أو حمايته.
لم يعد عمر إلى البيت، وكان راديو 2000 قد أبلغ عن وقوع إصابات في المنطقة التي تواجد فيها. خرجت الأم لتبحث عنه ووصلت الى المستشفى الانجليزي، ولم يكن عمر من بين المصابين. جاءت أم بسام، جارة ام إبراهيم واحتضنتها وهللت "الله اكبر، عمر استشهد!"...
"كل يومٍ جديد، يزداد شوقي اليه وتعلقي به، أعد صوره، أحيانًا أشعر انه يجلس بقربي، أشعر انه يتحرك معي في البيت"، تقول والدته هدية عكاوي.

ما كان ليعوض عائلة عكاوي وغيرها من عائلات الشهداء سوى معاقبة الجاني، أو ذكر اسمه على الاقل، ليكون عبرة للآخرين، ويكون سببًا في منع الشرطة من ضغط الزناد كلما ثارت الأعصاب.

ولأنّ الوجع "لا يصيب سوى صاحبه"، فإنّ التساؤلات تزداد كلما مرّت السنين، عشرُ سنواتٍ على رحيل عمر عكاوي والشهداء الآخرين، ولا شيء يخرج من أروقة المحاكم، تقول الشقيقة: "تصوري أنهم كانوا يحددون أهالي الشهداء بـ 13 نفرًا، في جلسات التحقيق أمام لجنة اور، فتكتفي العائلات بممثلٍ واحد يستمع الى ما يدور في أروقة المحكمة، بينما يجلس كثيرون من المتفرجين ورجال الشرطة دون قيدٍ أو شرط"!!

"عندما أطلقوا النار عليه كنت موجودة"

في الثاني من اكتوبر، دخلت أم اسيل غرفة إبنها لتجده نائمًا، واتجهت صوب بيت شقيقتها. في ذلك اليوم زاره صديقه فدخلا الى الحاسوب، وانطلقا باتجاه منطقة "المل".

كانت نشرات الأخبار التي يتناقلها الناسُ مليئة بالأحداث، في كل القرى والمدن، توجّس قلب أم اسيل، عندما عرفَت انه خرج من البيت صوب الأحداث أصابها الخوف، فهي أمٌ قلقة باستمرار، انطلقت باتجاه المل (منطقة زراعية في عرابة)، كانت المرأة الوحيدة التي تسير بهذا الاتجاه. إزداد خوف الأم، صارَ القلقُ شبحًا يطاردها، حيث سارت بسرعةٍ لتعيد إبنها إلى حضنها، وكأن شيئًا ناداها. وقفت في مكانٍ مرتفع تراقب المشهد الذي أمامها. الشرطة تقف بعيدًا عن الشباب، تحت أشجار الزيتون الخضراء، شابٌ يلبس كنزة خضراء، إنه أسيل، تعرفه من اللون، لكنها لم تتأكد من ملامحه، اتصلت بشقيقته كي ترسل له ملاحظة على الهاتف النقال، أن ينتبه، فالشرطة تبدو "كالثور الهائج"، وفي لحظةٍ نزل ثلاثة من افراد الشرطة الى كرم الزيتون، رأيتُ أسيل يجلس تحت الشجرة، ضربوه بكعب بارودتهم وقتلوه.

كانت ام اسيل لا تزال تراقب المشهد، غمامة من الضباب حامت حول عينيها. في تلك الاثناء نقله شبّان إلى العيادة في سخنين، ومرة أخرى، نقلته سيارة الإسعاف عبر الطريق الترابية إلى مستشفى نهاريا، ولحق بهم أبو أسيل أامه، وفي المستشفى ادخل الى غرفة العمليات... واستشهد أسيل.

"صار رقمًا... أيُ مأساةٍ هذه أن تربي ابنك حتى يصبح شاباً، ولا تضمن له الأمان".

ام اسيل، مربية أجيال، تركت مهنة التدريس بعد تجربة 33 عامًا، وحاولت طوال سنوات تعليمها أن تقدم رسالة التربية كما يجب، وكانت ايضًا تسعى الى تزويد الجيل الجديد بالثقة والاستقلال والحرية، لكنها اليوم –كما تقول- تخاف على أبنائها، كثيرًا "إلى درجة قد تقيّد حريتهم بعض الشيء".

ومَن عرف ام اسيل في السنوات الماضية، يعرف قوة شخصيتها، وجرأتها في طرح قضايا المجتمع العربي، لكنها اليوم تبدو كمن أضناها الحزن: "أحب أن أحبس المي ولا اظهره للآخرين، حتى لا أشغلهم بألمي وأنسيهم فرحتهم".
تقول أم أسيل: "أنا لم اختر ان اكون تحت المجهر"، لكنّ الظرف المؤلم الذي أصابنا حملني مسؤولية كبيرة، وسيحاسبني التاريخ لو أهملت حق الشهداء".
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]