حَمل الحُلم وجاءَ طائرًا، كالسنونو حطّ رحاله في وطنه!
وعلى أنقاضِ بيتٍ عاش فيه الأهلُ والأجداد، سقطت دمعة ظلت حبيسة 57 عامًا من التهجير واللجوء….
حنينٌ عاصفٌ، أتى بِهِ عاشقاً وِلِهًا لاحتضانِ تراب "لوبية" المهجرة، وسافرَ مُكرهًا، على أمل أن يعودَ في العام القادم زائرًا، و"ليته" يعودُ وعائلته إلى الوطن العمر كله…

هي حكاية وليد محمد فياض هدروس، فلسطيني، حملَ بطاقة لاجئ في لبنان، ثم استبدلها بمواطن سويدي، وصدفة في حياته، دفعت بدمائه الفلسطينية، إلى تفقد موطن الوالدين ومدافن الأجداد… فكانَ اللقاءُ "الموجِع المفرح"، حين تنفسَ هواء لوبية، واحتضن رماد الذكريات فيها.

حكاية لاجئ

عشرون عامًا، أمضاها في لبنان، فلسطينيٌ وُلد عام 1953 في لبنان، وكان لا بُدّ أنّ يُعرّف على نفسه، كُلما انتقل من مكانٍ إلى آخر، وهو أمرٌ عادي بالنسبة للاجئين، فلا بُدّ لهم أن يُسألوا في الرواح والغدو، عن بطاقتهم: "وليد هدروس، فلسطيني"، اسم الوالد: فياض، الوالدة: ثريا ابراهيم ذياب، أقمتُ في البقاع، ثم انتقلتُ الى صور، اخوتي فاطمة، فياض، أنور، مفيد وأحمد الذي وُلد في عيلبون في مسيرة اللجوء إلى لبنان، ثم توفيَ لاحقًا".

يتابع هدروس وكأنما يُحدث نفسه: "بعد أن استفحل الهجوم على لوبية، (قرب طبريا)، وثارَ الجيش المحتل على أهالي القرية، لأنهم تحدوهم، فقتل مَن قُتل، والآخرون ساروا نحو لبنان... الوالدة كانت تعاني آلام المخاض، ثم ولدت في عيلبون طفلا واسمته أحمد، اقترح أبي أن نُبقيه لدى الأصدقاء من دير حنا، فقالت ثُريا "شو مالك يا زلمة، حدا بترك ولادو جمعتين"، لكنها تركت ثلاث مصباتٍ للقهوة وفرشتان ومفتاح لدى معارف من عائلة حسين في دير حنا، ثم رحلوا إلى لبنان، لكنّ العودة لم تكُن....".

تأخذهُ الذاكرة إلى تفاصيل الحكاية: "وُلدت في عنجر، في البقاع عام 53، وانتقل الأهلُ إلى صور عام 55، توفي والدي في لبنان، وتوفي شقيقي أحمد، وفاطمة تسكن في لبنان وهي 70 عامًا الآن، أما مفيد فيقيم في الدنمارك، وأنا في السويد، ولي شقيقٌ يعيش في أمريكا، وشقيقٌ في لبنان، وكُلنا نعيشُ مع عائلاتنا".

يتابع هدروس: "هجرتُ لبنان عام 1973، وعملتُ في شركة نفط بالكويت حتى العام 1986، تزوجتُ من فلسطينية التقيتها في لبنان، وهاجرتُ إلى السويد ولي من الأبناء أربعة تركتهم في السويد وأتيتُ زائرًا".

الجرح الفلسطيني

"كيفَ أنسى أنني لاجئٌ في وطنٍ عربي، وأنا الطالب في مدرسة تابعة للأونروا (وكالة الغوث)، وفي لبنان ليس لنا أية حقوق، وليس لنا ان نعمل، لكن نحمد الله أنهم تركوا لنا سلاحنا الوحيد وهو العلم، وللحقيقة أقول لا كرامة لفلسطيني في غير أرضه".
"وأكثر ما آلم والدي أنهما تركا لوبية قسرًا وقهرًا، واعتقدا أنّها أياماً قليلة وسيعودان، لكنهما عادا بالذاكرة ثم فارقا الحياة"

"الأمانة"

"كان لقاء الصدفة بين شقيقي سمير المغترب في الدانمارك، ود. أحمد نعامنة وهو مغتربٌ يقيم في ايطاليا، حيثُ التقيا في مؤتمرٍ لفلسطينيي الشتات في فيينا، ودار نقاشٌ سياسي بينهما، سرعان ما تحول الى صداقة، حين عرفا انّ ما يربطهما ليس موضوع سياسة، فحسب، بل علاقة قرابة ووحدةٌ تاريخية وجغرافية، ومِن خلال سمير صارت هناك علاقة عائلية بيننا وبين عائلة الدكتور نعامنة، زارنا في السويد، وبينما لم يُفلح بإقناع سمير بزيارة الوطن لأنّ الأخير مقتنع "أنه لن يعود الى لوبية إلى بعد التحرير"، بينما قلتُ أنا انّ حفنة ترابٍ في يدي من وطني، تساوي مال الدنيا، وجئت الوطن زائرًا".
يتابع هدروس: "رحمة الله على امي، اخبرتني انها تركت مصبات للقهوة لدى أصدقاءٍ لها في دير حنا، فزرتُ بمعية د. نعامنة البلدة، والتقيتُ بعائلة حسن عبد المجيد حسين، وهما أبناء مصطفى عبد المجيد رحمه الله، ثم جمعوني بالأمانة، فقبلتها وقررتُ أن أتركها في الوطن، حتى أعود اليها مُقيمًا دائمًا".

وصية أبنائي "كمشة تراب وحجارة من لوبية"

"عشرة أيامٍ في الوطن، وكأنها عشرات السنين أعيشها هنا، لا أشعر بالغربة، اكتشفتُ علاقات قرابة ونسب لم تخطر ببالي، وسأعود العام القادم مع أبنائي، الذين يحبون مثلي فلسطين، وقد أوصوني بكمشة ترابٍ وحفنة من الحجارة من لوبية المهجرة".

"لو كنتِ معنا في لوبية، لشعرتِ مثلما شعرتُ أنا، الأحجار تكلمت معي، حضنتني، شعورٌ غريب هز وجداني، دمعت عينايْ، إنها حكاياتٌ وذكريات لطالما سمعتها من أهلي، والآن أشم وأتحسس رائحة الأهل والأجداد، لي في الوطن أهلٌ وأقارب، وقبورٌ وترابٌ يأبى أن أفارقه".

"والدتي تركت فرشتين ومفتاحٌ، لم نُحسن العثور عليهم، وإن كان المفتاح لن يجد لَهُ بابًا، لكنّ حين يعود اللاجئون ستكون الأبوابُ مشرعة، والمفاتيح في القلب".
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]