في الخامس عشر من تموز عام 48، سقطت قرية صفورية (قضاء الناصرة)، مثل غيرها من المدن والقرى الفلسطينية، بيد العصابات الصهيونية، وتم تهجير سكانها الآمنين وطردهم من ديارهم قسراً، رغم أنهم كانوا صياماً، حيثُ صادف حينها حلول شهر رمضان المبارك. فلا بُوركت أيدي المحتلين، الذين ما ردعتهم حُرمة الشهر الكريم عمّا اقترفت أيديهم، فشَرَدوا أبناءها الذين هاموا في الأرض، وأصبحت صفورية الوطن الحاضر - الغائب للصفوريين حيثما راحوا وغدوا.

مات الآباء، ولم ينس الأبناء...

كبرت أجيال وترعرعت، وكانت وصية الكبير قبل مماته، مفتاح الدار، وتوثيق الذاكرة المحكية، من خلال سرد الأحداث من جيل لآخر، في محاولة لترسيخ بقايا صور من النكبة، ما سبقها وما تلاها، في أرشيف ذاكرتنا. ومن قال أن الأجيال الصاعدة ستنسى، فقد أخطأ، لأن الشعب لم ولن ينسى ما قد حصل. منهم من تشبث بتراب الأرض، ومنهم من كُتب عليه أن يكون لاجئاً!

كان موعد الموعد، أو كما يُسميه أهالي صفورية، بـ " الاستاذ موعد"، مدرساً في المدرسة الأميرية للبنين في صفورية، وعند سقوط القرية، شدَّ رحاله قسراً، وترك قصراً مكونا من طابقين وسبعة عقود، يتوسط أرض تقدر بأربعة دونمات، ترك شجرة التوت التي تـُظلّ ساحة البيت الكبيرة، لينزح هو وعائلته إلى جنوب لبنان، حيثُ استقروا في الغازية، وأصبح فيما بعد مديراً لمدارس الأنوروا (1950-1982).

زرع حُب الوطن المسلوب.. في قلوب الأبناء

حرصّ الاستاذ موعد رحمه الله على أن يزرع حُب الوطن المسلوب في أبنائه، فطالما حدث ابنه محمد وباقي أبنائه عن فلسطين، وعن قريتهم صفورية خاصة، وعن جدهم الشيخ محمد الموعد، الذي كان مختارً القرية، وكان داعما للمقاومين وقدم لهم الحماية، إلى إن تم نفيه إلى صفد بسبب هذا. وحدثه أيضاً عن عمه الشيخ سليم الموعد الذي عمل مستنطقا حكوميا في عهد الأتراك، و قاضي تحقيق في الناصرة. نجح الأستاذ موعد في رسم ملامح القرية بذهن ابنه محمد، وكأنه يرى البيادر، الحواكير والبساتين، ومجرى نبع القسطل وغيرها من الينابيع، والقلعة التي تكشف الناصرة جنوباً وشفاعمرو غرباً، وتحرس قريتي الرينة وكفر مندا، والمدرج الروماني الذي يقع على السفح الشرقي للبلد، والذي مرت عليه حقب زمنية وتبدلت عهود وملوك. وعن التسامح الذي كنه سكان البلد لراهبات "دير القديسة حنّة" الذي صمد أمام العدوان الصهيوني في ذلك الحين.

محمد: " أشعر وكأن البيت لا زال موجوداً"!

يقيم محمد الموعد اليوم في الإمارات العربية المتحدة، حيثُ استقر فيها، ويعمل مديراً لإحدى الشركات. ترسخت صفورية في ذاكرته من خلال أحاديث والده الأستاذ موعد عنها، والذي نجح في زرع حُب الوطن فيه، وكبرت هذه الذكريات معه، وزاد معها اهتمامه بالتعرف عليها.

لقد تعمق في التعرف عليها من خلال الكتب، ولم يرها إلا من خلال الصور، ولم يلمسها إلا من خلال المقتنيات الأثرية الفلسطينية القديمة التي يحرص على اقتناءها، وخاصة العملات الفلسطينية، التي لا تقدر بثمن.

من بين اللوحات والأثريات التي يحتفظ بها محمد، لوحة تصور منزلهم الكبير في صفورية قبل النكبة، بيتٌ تزينه أعمدة من الحجارة الملونة، ومكان مخصص لربط وإطعام الخيل، تـُظلـّه شجرة التوت الكبيرة، يتسع لنحو 50 رجلاً. كان هذا البيت مضافة لسكان القرية. يقول محمد: "أشعر وكأن البيت لا زال موجوداً، وأني أجول في رواقه، مع العلم أن البيت هدمته قوات الجيش الإسرائيلي نهاية العام 1948".

سارَّ محمد على نهج والده، رحمه الله، وعلّم أولاده حب القرية والوطن، ويؤكد لنا أن مقولة "الآباء يموتون والأحفاد ينسون" هي مقولة خاطئة، "لأن الأجيال مهما تبدلت، تبقى متمسكة بحق العودة، إلى الوطن والقرية المهجرة... فقضيتنا مصيرية".

بكرا: ماذا تقول لأولادك بهذا الشأن؟

تتكون عائلة محمد من أربعة أولاد: سلوى، نور، زينه ومجيد. " كنت أحدث أولادي عن بلدهم فلسطين، وقريتهم صفورية، علمتهم أن يفتخروا بها، وبأجدادهم. كنت وما زلت أحرص على تزويدهم بكتب عن تاريخ فلسطين، وشراء الكثير من الصور الجميلة لصفورية والناصرة والقدس، قبل وبعد النكبة، بالإضافة إلى الوثائق الفلسطينية القديمة، حيثُ قمت بإهداء وتزويد كل فرد منهم بمجموعة من الصور والعملات، الكتب والوثائق. فهي وسيلة لترسيخ الوطن في ذاكرتهم".

سلوى: "حدثتني جدتي عن أعياد القرية وعن شعبها الطيب"

تخرجت سلوى من كلية إدارة الأعمال بتخصص إدارة نظم المعلومات و بمسار التسويق، وهي مثل والدها " محمد" تتمنى العودة إلى قريتها، وتتمنى ألاّ يطول الحلم و يصبح يوما ما حقيقة .. حقيقة قريبة.

تقول سلوى: "كانت جدتي سلوى- أم والدي - تحدثنا دائما عن فلسطين، وخصوصا صفوريةً، وكانت تصفها بأنها أجمل ما رأت عيناها.

حدثتني عن الأعياد فيها، وعن شعبها الطيب، وأرضها الخصبة، وزيتها وقمح بيادرها، حيثُ كانت تستمتع بمراقبة الفلاحين في موسم الحصاد، الذين كانوا يأتون بعد نهاية عملهم للجلوس تحت شجرة التوت الكبيرة في ساحة منزل جدي، ويستمعون إلى الراديو لمتابعة أخبار الحرب".

عائلة بولونية استوطنت أرض جدها!

وتابعت سلوى حديثها: " أخبرني جدي (الشيخ موعد محمد نصار الموعد – أبو مروان) أنه تم الموافقة والسماح له على زيارة مؤقتة لصفورية في العام 1982، حيثُ كحل عينيه برؤيتها، وتعطر برائحة ترابها، و رأى فيها مستقبله و مستقبل أولاده!

وخلال زيارته للقرية، قصد أرض والده، الموجودة بالقرب من القسطل، وإذ به يُفاجأ بعائلة بولونية تعيش فيها، فلم يكن أمامه سوى البكاء والحسرة على ما شهد... فكيف للغريب يصبح مالكاً لأرضه وأرض أجداده!؟".

وأختتمت سلوى حديثها معنا متمنيةً العودة إليها واحتضان ترابها والتعطر به: "أريد أن أفي بوصية أجدادي، بالعودة إلى أرضنا والدوس على ترابها... أتمنى ألا يكون هذا مجرد حلم".

ومثل هذه الحكاية، حكايات أخرى... يتبدل الأبطال، ويختلف المكان دون الزمان...

وهذه حكاية لمى التوبة... فماذا حدثتها جدتها عن صفورية؟

عند سقوط قرية صفورية في الخامس عشر من تموز عام 1948، شردَّ أجدادها إلى الأراضي السورية، وعندما تزوجت، انتقلت للسكن مع زوجها عمر الموعد، في السعودية حيثُ يقيم هو وعائلته منذ زمن.

تقول لمى: "رغم أن الذاكرة شاحبة وبعيدة، لكنها مرسومة بالبساتين والحقول، التي حدثتني عنها جدتي، كانت جدتي تقول: إن فلسطين بلد الخير، واللي ما عاش فيها ما عاش بحياته. كانت تشبه فلسطين وصفورية بشكل خاص بالمرأة الفلسطينية الحسناء، لكن حُسنها لم يجلب لها سوى الغدر والسلب، فوقعت أسيرة الاحتلال، وهُجر أهلها وتبدل صاحب الدار، ولم يبق منها غير صور متناثرة وذكريات مشوشة. لكنها تبقى في القلب.. هناك ينتظرني العُش الذي سأعود اليه، فمهما حلقت بعيداً عنه... بالنهاية سأعود إليه، وإن لم تسعفني العودة، فمن المؤكد أن أبنائي سيعودون إليها، فأنا دائما احدث ابنيَّ عن قريتهم صفورية وعن فلسطين... لن ننساها رغم أنف الحاقدين".

حدثتني جدتي عن صفورية وعن...

حكاية أخرى ترويها لنا يسار خالد، وهي بنت لأب لبناني، وأم صفورية، تقول يسار: " لقد حدثتني جدتي كثيراً عن صفورية، وكنت التمس الشوق في عينيها وأعين النساء عندما كن يجتمعن سوية عندها، في ساعات الصباح الباكرة، ويبدأن بإعادة شريط الذكريات الذي يحمل صورهن في فلسطين.

حدثتنا جدتي عن بيتها الكبير الواسع، وعن ساعات التطريز الطويلة التي كانت تقوم بها لتزين ثوبها، مشددة على أهمية التطريز وتعلمه، فقد كان من المفروض على كل فتاة أن تتعلم التطريز".

حدثني جدتي: "إن صفورية كانت واحدة من معاقل الثوار، وعند الانكسار، خشيّ السكان على أرواحهم، وأخذوا اللجوء سبيلاً لهم، وقرروا الرحيل، حدثتني أن جدي طلب منها (الدخول للبيت بسرعة، وأن تقوم بإحضار الأولاد بغيةً الرحيل، لأن المنطقة لم تعد آمنة) فأخذت جزءا من ذهبها والقليل من الثياب مما يسهل حمله لأن جدي وعدها أنهم سيرحلون لمدة ثلاثة أيام أو أسبوع على الأكثر، ولكن النيران تبعتهم إلى أن وصلوا إلى بنت جبيل، وأنجبت ابنتها التي كانت حاملاً بها".

لقد حرق شوق زيارة القرية المستحيل قلب جدتي، كنت أرى صورتها تنعكس في مقلتيها، صورة ضبابية للغاية لأنها تدرك أن العودة صعبة، مثل قرار الرحيل الصعب... لكن الحلم ليس مستحيلا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]