كان اللقاءُ مع رقية زيدان، الشاعرة والمدرّسة المقيمة في بلدة يمّة في المثلث الفلسطيني، لقاءً أدبيًا، حاولنا أنا وهي اختراق عالمٍ من الروحانيات، مبتعدين عن روتين اللقاء الصحافي، وبعد ساعةٍ مِن الحوار وتبادُل الآراء، صارَ بيننا لغة مشتركة، لُغة أقرب إلى الشِعر من السؤال وردِ الجواب... وخلفَ حديثها، كانت هُناك معانٍ عميقة، وكلماتٍ يحبسها الوجعُ فتخفيه، وتعيشُ فرحًا مؤقتًا، لشاعرٍ يرنو إلى السماء...
والدكتورة رُقية، التي لا تُحبُ الألقاب، تكتفي بالقول: أنا أكتُب للآخرين، أقرأ لنفسي، أدرّس طلابي، وفي حضنِ أمي أظلُ كطفلةٍ تحتاجُ إلى المزيدِ من الحنان.

رقية.. تكتب بمشاعرها، عن آلام شعبها، عن عذابات الناس، عن جرحٍ يلتحف حول قلبٍ ينبض بالحياة، وعن الوطنِ الجريح قالت: في احتفالٍ راقصٍ/للمشهد الدموي/ أرى وطنًا ذبيحًا في مروجِ القمحِ/يوقظُ احساسي/سنبلةٌ ضائعة/لا تعرفُ جيدًا ملامحي وحين تَصْمِت رُقية، تظلُ أحاسيسُها تبعثُ دفءً في المكان.

تحدثنا عن نفسها: "ولدتُ والشعرُ يكبرُ وتتسعُ رقعته في عالمي، كنتُ أعشقُ الكلمة، بدأتُ بالقراءةِ، فصارت الكلمات تؤثِر بي، وتمنحني الإحساسُ بالجمال، وفي الصف الثالث أو الرابع صِرتُ أكتبُ لنفسي.. وفي فترةِ المراهقة صِرتُ أكتبُ لنفسي، وأمزِق أوراقًا لا أريدُ لأحدٍ أن يُشاركني في قراءةِ سطورها".

"وفي البيت الذي وُلدتُ فيه، جمعتنا العائلة الريفية في بيتٍ دافئ، بين والدٍ مُعيل ووالدة داعمة، ونحنُ حولهما ثلاثة شقيقات وثمانية أشقاء، والدي كان يعملُ في فلاحةِ الأرضِ، رائحةُ الأرضِ والزيتونِ الأخضر ورشفةُ مِن الزيتِ بطعمٍ لذيذ، وخضراواتٍ بمذاقاتٍ مختلفة، تزيدُنا عشقًا لهذه الأرض".
"زادَ عشقي للكتابةِ، حينَ عرضتُ كتاباتي على معلمي اللغة العربية، فشجعوني، وزادت ثقتي بنفسي عندما وصلتُ المراحل الجامعية، حتى حصلتُ على اللقب الأول من جامعة تل أبيب، ثم اللقب الثاني من جامعة النجاح، واللقب الثالث في مصر".
"كلما كبرتُ أكثر، زادَ حُبي للكلمةِ ولمعانيها، طورتُ أساليبي اللغوية والبلاغية، درستُ القرآن الكريم، بكل آياته، وتعمقتُ بالنحو الكلاسيكي والإعراب، عشقتُ اللغة العربية بكلِ تفاصيلها".

أمي لا تقرأ... لكنها مثقفة!

"أمي هي مَن دفعني لأواصل كتابة الشِعر وقراءة الأدب، زرعتِ بي بذرة، وسقتها بدعمها، كنتُ أقرأ لها، فكانتَ تجربتها وما تحفظه من حكمٍ وحفظٍ للقرآن الكريم، ولقصصٍ تراثية قديمة كأبو زيد الهلالي ومجنون ليلى، والأغاني التراثية، كل ذلك كان كنزًا ثمينًا أوصتني بالحفاظِ عليه، أمي لم تكن تقرأ، كانت تحفظ غيبًا، وفي جعبتها ثقافة تناقلتها من جيلٍ إلى جيل".

ما بينَ التعليم والتعلُّم!

"أنا اليوم أدرّس في المدرسة الإعدادية في بلدة يمة المثلث، وعضوٌ في مجمع اللغة العربية، وفي لجنة المصطلحات والألفاظ، كما أشارك في الكثير من المحاضرات والندوات، وليسَ كمثلي أحدْ، حين أشعرُ أنني أعيشُ حياةٍ تجمعُ بين الأدب والشعر، ما بين العلمِ والتعلُم، وكلما أحسستُ بالضجرُ ملأتُ وقتي بالمزيدِ مِن المتعةِ الكتابية أو القراءة".

"ورغم أنني أمضيتُ 33 سنة في تعليم اللغة العربية، لكنني لم أشعرُ يومًا باليأسِ أو الملل، طوال الوقت أرافق طلابي في طموحاتهم، وفي أحلامهم... وفي مستقبلهم أيضًا".
"لكنني أشفق على طلابي، فهم موزعون بين كثيرٍ من المؤثرات، ما بين الفضائيات والانترنت والتقنيات الحديثة، التي تلهيهم عن تحقيق نجاحاتٍ تعليمية، أحيانًا يغفو الطلاب في الصفِ، فأُسائِل نفسي: أينَ هم الأهل عن أبنائهم؟! أينَ هي البوصلة الموجهة؟! أينَ هي الأم المصدر الأول القادر على توجيه أبنائنا وإرشادهم؟!"

قيمة اللغة!

"آثرتُ دراسة اللغة العربية في جامعة النجاح ومصر، لأنني أشعرُ أنّ اللغة العربية في بلادنا هي مجرد ترجمة، في الضفة الغربية ومصر، وجدتُ اهتمامًا أكبر بأصول النحو والأساليب البلاغية، وأصول العروض الشعرية، وقريبًا مِن الشعر أكثر عشقتُ امرؤ القيس والمتنبي، والبلاغة العربية الجميلة، بصفحاتٍ مِن آياتِ الذكر الحكيم. وكنتُ أعرف تمامًا أنّ إتقان اللغة العربية لا يأتي دون أن نعشقها، لكن أسبابٌ عِدة أن تحول دون لغةٍ عربية سليمة، ربما ازدواجية اللغة العامية والفحصى، وفي البلاد بسبب الإبحار في اللغة العبرية، وجدتُ ضالتي أثناء دراستي في بير زيت وفي مصر، سعيتُ للحفاظ على ثقافتي كي لا أنصهر، واجتهدتُ لأعمّق ملامحي أنني عربية فلسطينية .

"أثر الشعر اليساري في الثقافة الفلسطينية"

"كانت رسالة الدكتوراة تحت عنوان أثر الشعر اليساري في الثقافة الفلسطينية، وتناولتُ فيه الشعراء: محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد، وكم تأثرتُ بشعر "بين شطري برتقالة"، تابعتُ كتابتهم، وبعد الاستقراء والقراءة مع استاذي المصري المرحوم عز الدين اسماعيل في مصر، طلب مني تعديل الفكر الماركسي بالفِكر اليساري، واستغرق العمل على إنجاز الدكتوراة 4 سنوات، رحلة صعبة لكنها ممتعة".
"وتطلبت الدكتوراة مقارنة لماركسية حتى النخاع عند سميح القاسم، الذي حافظ على رسالة شعرية ضد الاحتلال ومناصرة الطبقة العاملة، وكذا شعر محمود درويش حتى السبعينيات، لكنه بعد ذلك أخذ شعره منحىً آخر، تعمّد الرمزية واعتماد الأسطورة والالاعيب اللغوية مثل: "عاشق من فلسطين" وآخر الليل"، وغيرهما، ورغم رحلة توفيق زياد القصيرة نوعًا ما في الشعر، لكنه خاضَ نضالاً شعريًا ضد الاحتلال ومناصرة العمال".

"أن أتعلم في مصر، مسألة لم تكن سهلة، لكنّ شهادة الماجستير من جامعة النجاح، كانت هويتي لدخول الجامعة".

"الذوقُ في الكلمة"

"كُل مَن يكتب كلامًا جميلاً، يستطيع أن يؤثِر بي، اختارُ الذوق في التعابير والمعاني، واستمتعُ بعذبِ كتابات محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين ومن القدامي.. أبا الطيب المتنبي وامرؤ القيس، ومِن الزمنِ غير البعيد: أحمد شقي، عشقتُ كتاباتٍ مترجمة لشعراء عالميين، مثل "السونيتات" الشكسبيرية، وأحببتُ الشاعر الفرنسي مارتين".

"أما راشد حسين، فقد قدمتُ دراسة وافية عن شعره، وحصلتُ يومها على جائزة توفيق زياد، اسميتها "وجع القصيدة ونبضها"، وإن كتبتُ الكثير عن راشد حسين، لا أوافيه حقه من التقدير، فرغم انشغاله بالسياسة ورغمَ عمره القصير الذي لم يتعدَ الـ 40 عامًا، لكنّه كان عبقريًا فذًا".
"وفي القصة القصيرة أحببتُ قصص: إميل حبيبي، اميل توما، محمد نفاع ومحمد علي طه، حتى بِتُ اؤمن أنّ في الحياة طفراتٌ زمنية، تولّدُ شعراء، كما العنقاء تموت ثم تتجدد بعد فترة، وكذا الشعراء، هناك مرحلةٌ تاريخية تولّد شعراء متميزين، مثل أحمد شوقي، نزار قباني، محمود درويش وسميح القاسم، ثم نعود لفترة من الفتور، كالتي نحياها اليوم، ونعود مِن جديد بعد أعوامٍ ليتجدد عهد المبدعين، حتمًا!"

رقيّة زيدان، الشاعرة الغائبة، المرأة الحاضرة، الأمُ العاشقة!

"أقرأ لشاعرات وشعراء، لقاصين وقاصات بنهمٍ كبير، تستهويني كتابات فاطمة ذياب، سعاد قرمان، رجاء بكرية، لا أستثني أحد، أعلّق آمالاً على مروان مخول، وأسأل عن سامر خير، لماذا هو منقطع؟! أسماءٌ تلمعُ ثم تختفي بعضها في زحامِ الكلمات.. وفي غمرتي انغماسي بالأدب والشعر المحليين، يسألونني عن غيابي، فأجيبهم: لستُ بغائبة، لدي ثمانية دواوين شعرية، ومؤلفاتٍ أخرى على شكلِ دراسات، لستُ غائبة، بدليل أنّ كُتبي موجودة في المكتبات، بين يديْ الموزعين، ولي بعضُ القصائد المترجمة".

رضى النفس!

"إذا كان الطموح في فمِ السبع فانتزعه، وأنا لدي طموحٌ كبير، وأتمنى لو انتشرَ شعري وأدبي كما لم أتخيل بعد!.
"لم يُحاوِل أحد أن يحد من عزيمتي وإرادتي، ولم يستطع أحد أن يقتل أحلامي، وأن يحرمني من الروحانيات، أما الآلام فهي جرحٌ داخلي، أصارعه فأغلبه. وأنا علمتُ نفسي الصمت، واللجوء إلى عمقِ المعاني".

حلم الأمومة!

"لم أختر الوحدة بمحضِ إرادتي، بل هو قضاءٌ وقدر، لكني أعيشُ وأسرتي، ومع أمي بهدوءٍ، يغلفه، الشعورُ بالأمومة، وهو عالمٌ مِن الحُبِ جميل، عشته منذُ فَقدَت ابنة أخي أمها، وهي حديثة الولادة، فصرتُ أمها، وربيتها، وهي اليوم في الصف الثالث، تنادي "ماما"، واحتضانها قمة سعادتي".

طعم الحرية!

"أشعرُ أنّ المرأة صارت أكثر بحثًا عن الحرية، تكسرت أغلالٌ كثيرة، وتحررت نساءٌ كثيرات من العبودية، لكن بعضُ المجتمعات القروية تعود قليلاً إلى عاداتٍ مرفوضة، كالزواج المبكر، الذي يسلب المرأة حقها باختيار شريكها، رغم أنّ القرآن الكريم أعطاها الحق بالاختيار والحق بالطلاق. وجاهلٌ مَن لا يعرف أنّ المرأة عبقرية في أمومتها وفي حنوها، وفي رقتها ولطفها، كما للرجلِ صفاتٌ إنسانية كثيرة".
"وأنا تذوقتُ الحرية، يوم كنتُ أول فتاةٍ صغيرة تكتبُ الشعر، ويوم خرجتُ من البلدة لدراسة الدكتوراة في دولةٍ عربية، كانت الحرية رفيقتي، ومعها كانت كرامتي أيضًا."

"ورغم حريتي التي كانت بين يدي، كنتُ لا أخرج عن المألوف، لم أكن أكتب ما لا يرتضيه أهلي، لم أنشر ما لا يقبله مجتمعي. ولدي قصائد أكتبها لنفسي واحتفظ بها بين أوراقي الخاصة".
"في المقابل، نساءٌ كثيرات، الوازع الديني والمجتمع، يقيدان حريتهن".

متعة الحياة والحلم الدائم!

"متعتي في الحياة في كتابة الشعر، خلال السفر، قبل النوم، في المدرسة، أو في أيِ مكانٍ يلهمني. وحُلُمي أن تحقق المرأة ذاتها، وتكسر حواجز المنع ومنع الظلم. وإذا ما تألمتُ أحاول أن أخرج ما بداخلي، عبر "تطهير النفس"، بعيدًا عن الكراهية، قريبةً من المحبة والعطاء. وإذا ما أردتُ سلو النفسِ والحسِ فإنني أسمعُ القرآن الكريم للشيخ عبد الباسط، أو لمحمد رفعت، أو أسمع غناء الموسيقار فريد الأطرش، وعبد الوهاب وأسمهان... وبين هذا وذاك، أحب السفر، وأستمتع بالطبيعة والجمال وأمني النفس بالتأمُل.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]