منحى التوتر في المسجد الأقصى في ارتفاع مستمر جراء سعي الاحتلال إلى تكريس سياسته القائمة على الرضوخ للأمر الواقع، في ظل التغيرات الجذرية التي أحدثها في السنوات الخمس الماضية، تحت مسمى "التقسيم الزماني والمكاني" للحرم القدسي الشريف.
مسلسل اعتداءات الاحتلال لم يكن وليد اليوم، فقد بدأ منذ الساعات الأولى للاحتلال الإسرائيلي للقدس في العام 1967، عندما رفع العلم الإسرائيلي لفترة وجيزة في الحرم القدسي.
أيقنت حكومة الاحتلال حينها خطورة هذا الفعل عليها، فعملت على التعايش مع الوضع القائم ولم تتجاوز دور الأوقاف الإسلامية في الإشراف الكامل على المسجد الأقصى بكل ساحاته ومبانيه باستثناء حائط البراق ومفاتيح باب المغاربة الموصل إلى الحائط.
أول خرق للاحتلال جاء في العام 1969 عندما أحرق المسجد، وبسببه بدأت أول هبة جماهيرية للدفاع عن المسجد... وما زلنا نذكر ونحن أطفال كيف بدأت مكبرات المساجد تدعو الفلسطينيين للدفاع عن "الأقصى"... كان الغضب الفلسطيني عارماً... لكن للأسف أقل من توقعات حكومة الاحتلال في حينه وعلى رأسها غولدا مئير، التي كتبت في مذكراتها إنها توقعت اندلاع حرب شاملة على مختلف الجبهات، ولكن هذا لم يحصل.
هكذا كانت حكومة الاحتلال تنظر إلى الأوضاع في "الأقصى" وتحاول قدر الإمكان الابتعاد عن نار المقدسات.
وعلى الرغم من ذلك مر المسجد الأقصى بكثير من الحوادث والاعتداءات الإجرامية التي تسببت بارتقاء عشرات الشهداء ومئات الجرحى.
عقب كل اعتداء على المسجد كانت هناك توصيات من المستويات الأمنية الإسرائيلية المتعددة، تحذر من انفلات الوضع وتطالب بلجم توجهات المتطرفين اليهود، الذين شكلوا عصابات تحت مسميات مختلفة للسيطرة على الأقصى بدعوى إقامة الهيكل فوق أنقاض الأقصى.
العصابات اليهودية المتطرفة كانت محدودة العدد، لا يزيد عدد المشاركين في مسيراتها خاصة في الأعياد والمناسبات اليهودية على عشرة أشخاص في أحسن الأحوال، وجل ما كانوا يأملونه هو الاقتراب قليلاً من باب المغاربة قبالة حائط البراق... والوقوف خارج هذا الباب فترة زمنية قصيرة دون أن يسمح لهم بالدخول.
ظلت سيطرة الأوقاف شبه كاملة على المسجد إلى ما بعد الانتهاء من إعادة فتح المصلى المرواني الذي يعتبر أهم حدث حتى بدايات تسعينيات القرن الماضي، حتى إن سلطات الاحتلال تعترف اليوم بأنها ارتكبت خطأ فادحا بالسماح بفتح المصلى المرواني وإعادة ترميمه....

أما التحول الدراماتيكي فقد بدأ قبل خمس سنوات عبر تكريس سياسة التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى... والسماح للمتطرفين اليهود باقتحام المسجد بشكل جماعي في أوقات محددة... والأخطر كان موافقة ما يسمى المحكمة العليا الإسرائيلية على هذه الاقتحامات وتشريعها.
الاقتحامات بدأت بأعداد صغيرة، في مناطق محددة وعلى شكل جولات خاطفة مع عدم السماح للمقتحمين برفع أي شعار أو القيام بأي صلوات في ساحات المسجد.
الاقتحامات المحدودة في حينه لم تلق مواجهة قوية على الصعيد الفلسطيني أو العربي والإسلامي، ما شجع المتطرفين على زيادة وتيرتها... بل أكثر من ذلك فقد بدأ المقتحمون يؤدون بعض الشعائر والطقوس التلمودية... وكان التصدي الوحيد لهم من المرابطات، وعدد قليل من المشاركين في حلقات العلم... وكان سلاحهم التكبير في وجه المقتحمين.
سلطات الاحتلال بدأت تتنبه لأهمية ما تقوم به المرابطات وكبار السن فاتخذت إجراءات قاسية بحقهم منها الاعتقال وفرض غرامات كبيرة والإبعاد لفترات مختلفة عن "الأقصى".
وما شجع الاحتلال أيضا على تكريس "التقسيم المكاني والزماني" هو الضعف الفلسطيني جراء الانقسام وحرب الطوائف بين الضفة والقطاع وتهاوي الموقف العربي بعد ما أطلق عليه الربيع العربي والحروب الأهلية التي استعر لهيبها في أكثر من دولة... بحيث أصبحت المشكلات الداخلية للمواطن العربي تطغى على أي اعتبار آخر.
وخلال الأشهر الماضية حصل تطوران في غاية الخطورة والأهمية في آن، التطور الأول محاولة الاحتلال تغيير واقع المكان بنصب البوابات الإلكترونية على مداخل الحرم القدسي، ما أدى إلى هبة جماهيرية كبيرة عندما استشعر الفلسطينيون أن "الأقصى" أصبح في دائرة الاستهداف القصوى... والنتيجة كانت إزالة البوابات لأن حكومة الاحتلال أيقنت المخاطر الحقيقية عليها.
التطور الثاني ما يتعلق بباب الرحمة... عندما أيقن المقدسيون أن الوضع غير محتمل فبدؤوا التحرك وكسروات الأقفال وتمكنوا من الصلاة في الموقع، ما أغضب حكومة الاحتلال خاصة مع اقتراب انتخابات الكنيست، ومحاولة الأحزاب اليمينية العنصرية الحصول على مكاسب انتخابية من خلال تصعيد الاعتداءات في الحرم القدسي.
الاحتلال يصب الزيت على نار المقدسات مستغلا الانهيارات في المنطقة... لكن سلطات الاحتلال نسيت أن "الأقصى" خط أحمر، تجاوزه يعني أكبر من انتفاضة.

إجراءات الاحتلال تقرب المواجهة الكبرى، والأمر مسألة وقت، لأن فتيل التفجير الذي وضعته سلطات الاحتلال في الأقصى وما تحت الأقصى من حفريات يهدد بانهياره ... فتيل يعني جر المنطقة إلى حرب دينية، وعندها لن ينفع أي تدخل إقليمي أو دولي، عندما يكون شعار المواجهة "الاستشهاد أو الأقصى".
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]