في مدينة مليئة بالأصوات، اللغات، والألحان، يبدو التناغم شبه مستحيل. في مدينة مليئة بالتوترات، بالمعارك والبكاء، السمفونية تكاد أن تكون معجزة. في مدينة تجمع بين الروحانية والمادية، الكسر والإلتئام، المحطم والمرمّم، الجميع يطمح نحو الكمال.

هذا بالضبط ما كان عليه ليل الخميس الثاني عشر من أيلول. فمن قلبها وأمام أسوارها في حديقة ميتشل صدح صوتها ليصل إلى العالم أجمع. "دوزنة" هو انتاج حصري لـِ "مقدّسة" والذي تم عرضه في الثاني عشر من الشهر الحالي ضمن أحداث مهرجان "مقدسة". تحت قبة سماء القدس وتحديدا في حديقة ميتشيل الرائعة وعلى مسرح ضخم بزاوية رؤية 360° ومن أمام أسوار القدس وقلاعها، تم خلق انسجاما وتناغما رائعا من آلات موسيقية مكسورة ومهجورة تم جمعها على مدار السنة الحالية من كل أرجاء المدينة، آلات تاريخها من تاريخ المدينة، بعضها أبى أن يخرج من عين كارم ودير ياسين وبعضها الآخر عبر البحار والمحيطات من تركيا واليونان وإيطاليا ليكون هنا في القدس.

في اليابان يسمونه "كنتسوجي" - فن إصلاح الأواني الفخارية المكسورة وملئ شقوقها بالذهب، وهذا ما يُثريها ويجعلها ذات قيمة أكثر.

لقد بدأنا طريقنا بمجرد فكرة، ألا وهي خلق تناغم وانسجام كامل من داخل الكسور والصدوع، بشكل يشبه إلى حد ما المدينة التي نعيش فيها. خرجنا إلى الطرقات، التقينا بالمعلمين، استمعنا إلى الطلاب و قمنا بجمع آلات مهملة في المخازن وأخرى مكسورة من داخل بيوت أصحابها. توجهنا إلى فرق موسيقية محترفة وأخرى هاوية من شرق المدينة وغربها، وفي نهاية المطاف قمنا بتشكيل اوركسترا مميزة من العازفين والآلات. آلات كانت تنتظر طويلا فرصة أخرى من أجل إسماع ألحانها.

ثلاثة ملحنين

وبالتزامن مع كل هذا، قمنا بطرق باب ثلاثة ملحنين من أبناء المنطقة وهم: دودو تاسا، نزار الخاطر و مايا دونيتز، توجهنا إليهم بطلب تلحين مقطوعات موسيقية جديدة لم تعزف قط من قبل لهذه الآلات المكسورة. تولى عجلة القيادة المايسترو توم كوهِن من أوركسترا القدس الشرق والغرب المعروفة سابقا باسم ( الأوركسترا الأندلسية في القدس )، ووضعنا الإدارة الفنية في يد عمانويل ويتزوم الذي رابط ووفق بين أجزاء هذا العمل من أجل خلق قطعة كاملة متناغمة أكبر من مجمل أجزائها.

فخرجت إلى النور أوركسترا عظيمة من 108 من العازفين الذين جاؤوا من 16 حي في القدس ليعزفوا ألحانهم على 119 آلة موسيقية مكسورة وسليمة.

هذا العمل الرائع تكون من ثلاثة مقاطع موسيقية كتبها ثلاثة ملحنون، نزار الخاطر الذي قام بكتابة مقطوعة "من هنا" والتي قدم من خلالها خطابًا ثقافيًا أصيلا يستند على أسلوب التقاسيم وهو نوع من الارتجال الموسيقي القادم من الشرق ، يشتمل على رحلة من الألحان من آلة موسيقية واحدة إلى أوركسترا كاملة والذي كشف من خلاله عن طبقات من التناغمات الرومانسية والموسيقى التصويرية، وفي أوقات أخرى أظهر عن طبقات من التبادل، وتكثيف الإيقاعات التي تتسارع خلال عزف المقطوعة الموسيقية. الخاطر هو عازف بيانو، ملحن ومايسترو. حاصل على اللقب الأول والثاني من أكاديمية القدس للرقص والموسيقى. هو المايسترو والمحرك الرئيسي لفرقة ABAAD، الفرقة التي تجمع عازفين من الشرق والغرب. أسس جمعية هارمونيكا، والتي تعمل على جعل الموسيقى في متناول الجميع وصولا إلى المناطق البعيدة لتعلم أساليب وأدوات مختلفة وبناء الفرق والجوقات. كما أنه قائد لفرق موسيقية عديدة في داخل البلاد وخارجها منها الأوركسترا العربية اليهودية في تل ابيب. كتب توزيعات والحان كما انه عرض كعازف بيانو مع اوركسترات مختلفة، منها أوركسترا القدس السيمفونية، كيبوتسيت نتانيا، أوركسترا السمفونية رعنانا، أوركسترا ترشيحا، كتب وعمل في أوركسترا اسرائيل الفيلهارمونية، كما أدى عروضا كمايسترو وعازف بيانو في مهرجانات محلية وعالمية.

مكسور

مايا دونيتز قامت بكتابة المقطوعة الثانية "مكسور" والتي من خلالها قدمت صورة لمنظر بري، صورة لقوة الطبيعة بطقسها العاصف ومخلوقاتها الحية، لقد كان تناغما ساحرا من الارتجال الرائع لموسيقى طيفية والتي هي بحد ذاتها لوحة مجردة من عوالم صغيرة وكل واحد من هذه العوالم بداخله شيئ عاصف مضطرب. دونيتز هي ملحنة، عازفة بيانو وفنانة أصوات، تمارس نشاطها في الحقل المحلي والعالمي في أماكن تقاطع الموسيقي، الفنون البصرية، الأداء والبحث التكنولوجي والفلسفي، تقوم بتلحين مقطوعات موسيقية لفرق في أرجاء العالم المختلفة، بالإضافة لقيامها بأعمال صوت وأداء لمؤسسات ومنظمات مختلفة أمثال بيليه دي طوكيو في باريس، معرض أرلونفيني في بريستول، مركز الفن المعاصر في تل أبيب، المركز الوطني للفنون والثقافات جورج بومبيدو في باريس والعديد.

"جولة"

المقطوعة الثالثة " جولة" قام بكتابتها دودو تاسا والذي قام بترجمة الفكرة من المشروع لموسيقى بحيث أنه دمج عوالم موسيقية منقطعة من إيقاعات الآلات المكسورة، لقد تعامل دودو في مقطوعته مع كسر الآلات المادي وأخذه بعين الإعتبار بطريقة فنية متكاملة ورائعة. يعتبر تاسا أحد أهم الفنانين المؤثرين في عالم الموسيقى المحلية. يدير تاسا مسيرة مهنية طويلة وغنية تتضمن أعمالا لا حصر لها والتي باتت تعتبر منذ فترة طويلة جزء من الحمض النووي الموسيقي المحلي، كما يحتل مكانة مهمة كأحد المبدعين المحبوبين في المنطقة. لقد حصل تاسا مرتين على جائزة آكوم ( ACUM Award) كأفضل ملحن للأعوام التي حصل فيها على الجائزة. أصدر تاسا خلال مسيرته المهنيه حتى اليوم 13 ألبوما تضمنت أعمالا ضخمة مثل ألبوماته الثلاث دودو تاسا والكويتيين والتي تضمنت تجديد أعمال جده داود وأخ جده صالح الكويتي ، واللذان كانا يعدّان من كبار الموسقيين في العالم العربي في سنوات العشرين من القرن الماضي.

قيادة الاوركسترا

ولقد قام المايسترو توم كوهين بقيادة هذه الأوركسترا الكاملة في عرضين منفصلين بفارق نصف ساعة بين كل منهما. كوهن هو القائد والمدير الموسيقي لأوركسترا القدس - الشرق والغرب (المعروفة سابقا بإسم الأوركسترا الأندلسية في القدس)، كما شغل منصب المدير الفني لِ "أرابيسك" - مهرجان عكا الدولي لموسيقى عربية كلاسيكية وأندلسية، وألّف العديد من التسجيلات الصوتية بما في ذلك الموسيقى للمسلسل التلفزيوني "زاكوري أمبيريا" و موسيقى فلم "Footnote" للمخرج يوسف سيدار.

دوزَنة مستوحاه من المشروع والحفل الموسيقي " سيمفونيّة الأوركسترا المكسورة" التي تم انشاؤها بتكليف من معهد الفن المعاصر (Temple Contemporary) في جامعة تمبل، الولايات المتحدة الأمريكية.

دوزنة هو احتفال تكريم للقدس، بكل ما فيها من صدوع وشقوق، إنه أغنية مديح لهذه الأرض الطاهرة، لكل ما هو كامل ومتناغم فيها. إنه بمثابة اقتراح لها بأن تكون مصدرا مستمرا لوئام مهيب وانسجام متكامل على جميع الأصعدة ليس لمجرد لليلة واحدة فقط ، ولكنه يجب أن يكون رؤيتنا المستمرة ضمن طبيعة هذه المدينة. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]