لم تخلُ الساحة السياسية لدى المجتمع العربي في الداخل أبدا من جوانب المنافسة الشخصية أو حرب النجومية أو الخلافات السياسية التقليدية. اصلاً لا يمكن فهم السياسة دون هذه الجوانب، لكنها طمعت دائما، حتى دون وعي المتنافسين، بمنافسة جوهرية على طبيعة ومعاني وأهداف العمل السياسي والبرلماني لدى الفلسطينيين في إسرائيل، وسؤال نجاعة العمل البرلماني.
هذه هي الأسئلة الجوهرية، ولو تهرب البعض من مواجهتها.
الإجابة عن هذه الأسئلة الجوهرية ترتبط مباشرة بسؤال تعريفنا لطبيعة النظام في دولة إسرائيل ولمكانة العرب فيها، ولإمكانيات تغيير واقع المجتمع العربي. وكذلك لفهمنا للمعسكرات السياسية في إسرائيل، ماذا يعني اليمين وهل هو ذاته اليمين التقليدي الذي وصل الحكم عام 77؟ وما هو "اللا يمين" (ما تبقى من اليسار الصهيوني)؟ وما هي الفروقات بينهم في نظام استعماري يرى في العرب عائقا أمام إتمام سيطرته ونجاح مشروعه بإقامة دولة اليهود على أنقاض الشعب الفلسطيني!
بعض الأحزاب العربية اجتهد وطرح أجوبة على هذه الأسئلة، بل ناقشتها بشكل معمّق حتى قبل خوضها العمل البرلماني، والبعض الآخر قفز عن هذه الأسئلة وتركز في سؤال نجاعة العمل البرلماني أو الإنجازات دون التعامل مع طبيعة النظام، ودون عرض بدائل وحلول تغير من معادلات العمل البرلماني.
تتيح إسرائيل مشاركة المواطنين العرب في العملية الانتخابية ومشاركة الأحزاب العربية في البرلمان، لكنها تمنع منهم التأثير الفعلي والجدي على عمليات صناعة القرار، مما يضع سؤال نجاعة العمل البرلماني وأهدافه على المحك إذا ما تعاملنا مع التعريفات التقليدية لنجاعة العمل البرلماني، المشتقة من الديمقراطيات الغربية الليبرالية. في حالة العرب في إسرائيل وأداء الأحزاب العربية في الكنيست، قد يكون ثمة حاجة لتعديل تعريف نجاعة وإنتاجية العمل البرلماني لئلا تقتصر فقط على الحسابات الكمية لاقتراحات القوانين، أو القوانين التي تنجح الأحزاب في سنها بالبرلمان، أو مضامين اقتراحات القوانين، أو اقتصار العمل على القضايا اليومية المعيشية، وإضافة جوانب أخرى لتعريف عمل الأحزاب السياسية، ونجاعة العمل السياسي والبرلماني تشتق من واقع المجتمع العربي وعمل الأحزاب العربية في إسرائيل.
من الواضح للجميع أن هناك محدودات لإمكانيات العمل البرلماني للأحزاب العربية في الكنيست، وهي التي تحدد ما يمكن تقديمه على هيئة الكنيست وما يمكن أن يتحوّل إلى قانون. هذه الحدود هي انعكاس مباشر لمبنى وطبيعة النظام في دولة إسرائيل. على الرغم من ذلك فإن الأحزاب العربية مستمرة في العمل البرلماني والمشاركة في الانتخابات البرلمانية وفي العمل السياسي. تفسير هذا الواقع يمكن أن يأتي من خلال وجود نتائج وأهداف إضافية للعمل البرلماني العربي لا تقتصر على النتائج العينية والفورية أو التقليدية للعمل البرلماني، منها تنظيم المجتمع العربي، الحفاظ على الهوية الفلسطينية واستخدام البرلمان كمنصة لتمثيل قضايا المجتمع العربي وعرضها على الرأي العام المحلي والمنصات الدولية، وتحدي الهيمنة اليهودية حتى من خلال الأدوات التي يوفرها النظام العنصري نفسه.
كأحزاب سياسية تعمل في البرلمان علينا أن نتعامل مع الصورة السياسية الأشمل التي تتعلق بمكانة السكان العرب في إسرائيل، السياسية والقومية والمدنية. فمن هذا الواقع تشتق أسئلة نجاعة العمل البرلماني ومعاني الإنجازات. يجب ألا نتعامل مع النجاعة بمفهومها الضيق ومن منظار تحقيق إنجازات عينية في العمل اليومي والمعيشي، أي الجوانب المدنية فقط، وتجاهل أو "التساهل" في الجوانب القومية وسؤال مكانة العرب في هذه الدولة.
نعم بالإمكان العمل على تغيير مكانة المجتمع العربي، القومية والقانونية، دون تجاهل أو التنازل عن العمل في القضايا اليومية والمعيشية المشتقة أصلا من المكانة ومن السؤال القومي. هذا إذا ما قمنا باستعمال أدوات العمل المتاحة بشكل صحيح، دون أي تنازل أو تراجع عن حقوقنا وانتمائنا.
تجارب شعوب وأقليات مضطهدة في العالم توضّح ذلك، وكذلك تجربة الأحزاب العربية في إسرائيل على مدار عشرات السنوات. لم يتحقق أي تغيير ولم نحصل على حقوق نتيجة لتنازل أو إرضاء للحكم الظالم والعنصري. لا التحبب إلى اليمين ولا إلى اللا يمين (ما تبقى من يسار صهيوني)، بل نتيجة لنضال وإصرار على نيل الحقوق ورفض العنصرية والتمييز.
أي محاولة لربط نتائج العمل البرلماني أو الحقوق بالمواقف السياسية أو التصرف السياسي أو برضى الحزب الحاكم، أيًا كان، ستكون نتائجه مؤقتة ومشروطة وقابلة للتغيير في أقرب فرصة، وسيكون ثمنها التنازل عن حقوق أساسية تسعى المؤسسة إلى تفتيتها وإلغائها بشكل مثابر. فهل نقدم نحن هذه الهدية للنظام وبهذه السهولة؟ كما أن درب التنازل لا يشمل فرصة للعودة إلى الوراء أو التراجع إذا ما فشلت المحاولات، كما تعلمنا تجارب قريبة أو بعيدة. فالتنازل لليمين أو اللا يمين (اليسار الصهيوني) والبرغماتية معه هي مساق باتجاه واحد. بينما الإنجازات الموثقة بقوانين وليس بتبديل السياسة فقط قد تصمد أمام تغيرات في النظام وتبقى في خدمة أبناء شعبنا لفترات أطول. تجربة حكومة رابين هي أفضل الأمثلة على ذلك. إذا تبدلت السياسيات الحكومية تجاه العرب التي عمل بعض وزراء حكومة رابين على انتهاجها بمجرد تغيير الحكومة ووصول نتنياهو إلى الحكم. ما حصل من تغيير مؤقت ومشروط فترة حكومة رابين شُطب بمجرد وصول نتنياهو إلى الحكم.
على الأحزاب العربية والقائمة المشتركة عدم القفز عن هذه الأسئلة ووضع إطار سياسي واضح لتحرك مركباتها، لتوضيح حدود الخطاب والمواقف والعمل السياسي المقبول على كل المركبات، ومنه يشتق برنامج عمل برلماني متفق عليه في القائمة المشتركة. المطالبة باحترام قرارات الأغلبية والالتزام في برامجها السياسي ليس انتقائيا ووفقا لاحتياجات كل مركب أو متغير وفقا للمصالح والغايات. هذا ما طرحناه في جلسات القائمة المشتركة، في الأسابيع الأخيرة، وسنستمر في طرحه لترتيب العمل البرلماني في القائمة المشتركة. أي شيء غير ذلك، وأي محاولة فردية لجر المشتركة إلى حضن اللا يمين (اليسار الصهيوني) أو اليمين، سيؤثر سلبا على العمل الجماعي، بل على نجاعة العمل البرلماني، وسيكون رهينة لمواقف وتصرفات سياسية. والأهم أنه سيؤثر سلبا على مستقبل القائمة المشتركة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]