الحضارة العربية والإسلامية لوحة عريضة في تاريخ الحضارة الإنسانية، أخذت وأعطت، وقدمت للبشرية أربعة عشر قرناً من الضياء.
فقد كان العالم الإسلامي منبعاً للعلم وللعلماء الأفذاذ الذين رفدوا البشرية والعالم بعلوم مبتكرة... وعلوم أضافوا إليها وطوروها ...وعلوم أسسوا لها وبنى اللاحقون على تلك الأُسس.
الخوارزمي في الرياضيات وابن الهيثم في البصريات وابن النفيس والرازي في الطب وابن خلدون في علم الاجتماع وابن رشد وابن سينا في الفلسفة والاصطخري في الجغرافيا وابن كثير وابن الأثير في التاريخ وزرياب واسحق الموصلي في الفن والموسيقى ... والقائمة أكبر من الإحصاء، إلى جانب آلاف من علماء الدين واللغة والأُدباء والمؤرخين ...إلخ
في العصر الحديث – وعلى الرغم مما ألمّ بعالمنا من استعمار واحتلال وديكتاتوريات وحروب وتفرق – ما زال في عالمنا العربي نخبة من الأعلام في المجالات كافة: كيمياء وأحياء وطب وفلَك فضلاً عن العلوم الإنسانية التي أوصلت بعضاً من علمائنا وأُدبائنا لجائزة نوبل، على الرغم من تسييس الجائزة في أحيان كثيرة.
لكن أمثال هؤلاء العلماء النخبة لا يجدون متسعاً لهم في أوطانهم، ولا من يُقدر علمهم وقدراتهم، ولا من يمد لهم اليد... خاصة الأنظمة التي لا يعنيها سوى بقاء عروشها ولو على بحور الدماء وجثث الضحايا.
عدد من أُولئك العلماء ليس فقط لا يجد من يقدره، بل يتم استهدافه بالقتل والاغتيال والسجن والإقصاء من المراكز الحساسة: فيلجأون إلى دول الغرب التي تحتفي بهم وتستغل طاقاتهم وقدراتهم لصالحها، وتمنحهم جنسياتها، وتوفر لهم كل ما يكفل عطاءهم العلمي.
هذا ما طاب للبعض تسميته (هجرة العقول) لأننا لا نخسر مجرد إنسان يمثل رقماً في قوائم عدد الناس، بل نخسر عقلاً هائلاً وفكراً عميقاً ولا نجد عوضاً لخسارتنا تلك بسهولة.
مجتمعنا العربي الفلسطيني ليس بمنأى عن هذه الخسارة التي يشق تعويضها، ففي بداية الثمانينيات شهدنا بروز نخبة من العلماء بالتزامن مع سياسة عنصرية في التمييز أدت لهجرة عقول عربية اتخذت من الغرب ملاذاً ومستقراً فكانت لهم هنالك بصمات.
ومع كل القدرات التي يتمتع بها أُولئك العلماء الذين أثروا المكتبة العلمية غير أننا ما زلنا نجد من بيننا أُناساً يفترون عليهم ويغفلون إنجازاتهم الهائلة ويتصيدون لهم هفوات تكاد لا تذكر بجانب إنجازاتهم، وعادة ما يكون الذم من أقل الناس علماً وخدمة للبشرية، لكن ذلك لن يطمس الحقيقة والشمس لا يغطيها غربال ممتلئ بالثقوب، ينطبق عليها قول الشاعر:
وإذا أتتكَ مذمتي من ناقصٍ......... فهي الشهادة لي بأني كاملُ
وفي هذا المقال سأستعرض أمثلة محددة، معتذراً للعلماء والعظماء الذين لا يتسع المجال هنا لذكرهم، لكن مكانتهم محفوظة وعلومهم تشهد لهم والبشرية لن تنساهم.
قبل عدة سنوات ودعنا العالِم العربي المصري ( الدكتور أحمد زويل) الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى عن عمر ناهز السبعين عاماً- رحمه الله - وهو الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء بعد أن صور بالليزر وضبط حركة الجزيء في الذرة أثناء التفاعلات الكيميائية في زمن قياسي يقدر بواحد على مليون مليون مليون جزء من الثانية، حتى إن الصحف الأمريكية أطلقت عليه لقب ( العالِم الذي أوقف الزمن).
عاش في الولايات المتحدة: فبلادنا ليس فيها متسع لأمثاله، ورحل تاركاً وراءه علماً زاخراً لا مجال لوصفه.
ومع ذلك تجد هذه المفخرة لا تسلم من أذى اللسان والطِعان والافتراء... يتصيدون هفوات ويغفلون إنجازات... مع أنني أنتقد انخراطه في التطبيع، غير أن ذلك لا يمحو سِجله العلمي وجهوده الجبارة في خدمة البشرية.
لا أحد فوق الانتقاد غير الله ورسله الكرام، غير أن ذلك النقد يجب أن يكون مبنياً على أُسس متوازنة منهجية.
ومن أمثلة العلماء والمفكرين الذين لم يسلم صرحهم من القذف الكاتب والأكاديمي السياسي الدكتور عزمي بشارة ابن فلسطين.
هذا الرجل قرأت عديداً من المقالات عنه ووجدت قاسماً مشتركاً بين كل تلك المقالات وهو أنها غير وسطية: فإما تؤيده بشكل تقديس ، وإما تعارضه بشكل متطرف. مع أنه صاحب أفكار ورؤى ونظريات في عدة مجالات ولعل أبرزها ( دولةُ كلِّ مواطنيها).
والمفكر العربي ( إدوارد سعيد) الذي عاش في كولومبيا وكان أستاذاً للرئيس الأمريكي الأسبق ( بيل كلينتون) على الرغم من أن العالم كله يعده عَلَماً من أعلام الفكر الإنساني، غير أن صحفنا ومنابرنا تستكثر علينا مثله، فتلجأ لتقزيمه واتهامه في الهوية والانتماء.
كثير من علمائنا وعظمائنا وصلوا إلى القمة وسط معمعان وهرج كبير وصعاب ومشاق هائلة، ومع ذلك لم يسلموا ولم يُقَيَّموا بشكل مُنصف وعادل.
لأن مجتمعنا جلاد في أحكامه ويتتبع العيوب وإن لم يجدها يصطنعها في المستهدفين .. ينظرون إلى نصف الكأس الفارغ، ويغضون الطرف عن نصفه الآخر الممتلئ.
ومن المؤلم أنّ معظم تلك الانتقادات أو التهجمات صدرت وتصدر عن أناس روجوا لسياسات إسرائيلية، ومنهم أناس روجوا للتطبيع مع سياسة الجنرالات والانسلاخ عن الهوية...
علينا أن نتحرر من منهج الشتم تحت ذريعة النقد وعلينا أن نظهر الإيجابيات قبل تتبع السلبيات، وعلينا أن ندرك بأن النتاج العلمي والعطاء هو العمر الحقيقي للإنسان وليست سنوات حياته من ولادته حتى وفاته.
كما يقولون: " علمي عمري".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]