بِرحيل مارادونا فَقَد العالمُ قطعةً من غيفارا وقطعة من الأم تيريزا، وقطعة من السّحر وقطعة من الغرابة، وقطعة من كاسترو وقطعة من دون جوان، وقطعة من الدالاي لاما وقطعة من سالفادور دالي، وقطعة سميكة من الحكمة وقطعة شفيفة من العبث… فهذه بعض القطع التي كانت تُشكّل، مجتمعةً، صورةَ البُّوزل، الصورةَ التي تُظهر مارادونا في مختلف أطواره: فقد كانت للفتى أطوار.

حين ذاع خبر موته، خرجت الملايين تبكيه وتهتف باسمه بوصفه إلهَ كرة القدم، ما أعاد إلى الأذهان كون هذه الرياضة ديانة قائمة الذات، وهو ما فصّلتُ فيه تفصيلًا في ورقة سابقة بعنوان “الوجود والعدم في كرة القدم”.

لكن، إلى أيّ ديانة هي أقرب؟

الأرجح أنها أقرب إلى المسيحية، بدليل أنبيائها وكَتَبَة أناجيلها: ميسي وكريستيانو ولوقا ويوحنّا (وقد لا يتأخّر متّى ومرقس). فميسي وكريستيانو اسمان صريحان للمسيح، وهما منذ سنوات يتناوبان الكُرةَ الذَّهَب. أمّا لوقا فهو لوكا مودريتش، بينما يوحنّا هو يوهان كرويف، فيلسوف كرة القدم المُبرّز.

لقد عرفت ملاعب كرة القدم لاعبين كبارًا بأسماء: إبراهيم ومحمد وعمر وموسى وعثمان وعليّ ومصطفى… ولا أحد منهم نال الكرة الذّهب. وحتى حين فاز بها لاعب إفريقي، كان له اسم مسيحي: جورج.

نَعْتُ مارادونا بإله كرة القدم أثار جدلًا مضحكًا وسط بعض ملاحدة اللّعبة. فقد اتّضح أنّ بين ظُهرانيْنا من لا يعرف أنّ كلمة الرَّبِّ تُقال لربّ العالمين مثلما تُقال لربِّ البيت وربِّ العمل، وأنّ الإله في الدّين غير الآلهة في أساطير الأوّلين، وأنّ هؤلاء يتخللّون حياتنا أيّامَها وشهورَها، بل إنّ منّا من يحمل مع بطاقته الوطنيّة إلهًا بكامل ترسانته، كما هو الشّأن مع مواليد شهر مارس: إله الحرب.

لو كان مارادونا قد عاش في زمن الأساطير لا في زمن الأديان، لكان كوكبًا لا نجمًا. فالأوّلون كانوا، لأسباب غامضة، يُسمّون الكواكب بأسماء الآلهة. أمّا مارادونا، إله كرة القدم، فما كانوا يحتاجون معه لسبب، لِتَطابُق الكرة والكوكب.

ومن الآن فسابقًا، إذا سمعتم معلّقًا ريّاضيًّا يصف لاعبًا موهوبًا بأنّه من كوكب آخر، فالمقصود طبعًا هو كوكب مارادونا.

في مونديال 86، سجّل مارادونا على الإنجليز هدفًا صوفيًّا، نصفه بشريّ ونصفه إلهيّ، حين ارتقى إلى الكرة وحرّك، بِمَكْرٍ، رأسَه في اتجاه اليد التي وضعتها في الشّباك، مراوغًا بذلك ملايين العيون التي انخطفت للهدف. وما عبارته الشهيرة “إنّها يد الله” سوى توأمٍ متأخّر لعبارة الحلّاج “ما في الجبّة إلّا الله”. فيد الله في ذلك الهدف كانت مع الفرد بوصفه جماعةً، مع مارادونا بوصفه المنتخب والأرجنتين معًا.

وفي نفس المباراة، راوغ مارادونا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، قبل أن يسجّل أجمل هدف في كلّ العصور، ويهزم بذلك الإنجليز في معركة تنفع فيها الأساطير لا الأساطيل.

هكذا كان الفتى خدعةَ الحرب وآلتَها النّاجعة، مثلما كان النّاطق الرّسميَّ باسم وجدان الأرجنتين. فحين اتّهمه الإنجليز بسرقة الانتصار، أبان عن سلاح آخر وهو يُواجههم بما سرقوه من بلده: جزر أوكلاند.

كما يكتب شاعرٌ عن شاعرٍ يحبّه، كتب درويش نصًّا عاشقًا عن مارادونا عقب كأس العالم الذي فاز به للأرجنتين. فمحمود عاش مُحبًّا للأرض وما يستحقّ عليها الحياة، من قهوة الأم إلى مِشمش النّساء، ومن صوتِ أمّ كلثوم إلى كرة القدم. فمرّة وصف أمّ كلثوم بأنّها متنبّي الغناء العربي، ومرّة عاتب الجمهور الغفير على حضور إحدى أمسياته، التي صادفت مباراة مهمّة في كرة القدم، قائلًا: كيف تتركون المباراة وتحضرون أمسيتي؟ أنا مكانكم ما كنت لأحضر حتى لو كان المتنبي من سيقرأ الشّعر.

فماذا لو امتدّ العمر بمحمود درويش حتى شهد رحيل مارادونا؟

هل كان سيرثيه؟

وإذا فعل، فبمن كان سيشبّهه؟

يقينًا، كان سيرى فيه متنبّي كرة القدم، لِجهة البلاغة والخُيلاء، كما لِجهة الخلود. فمثلما لا يُذكر سيف الدّولة الآن إلّا بعد أن يُشهَر المتنبّي، وهو قلّما يُغمَد، فمارادونا أيضًا كان له سيف دولة صغير يُقال له كارلوس مُنعم، يعرف حقّ المعرفة أنّ رئاسة الدّولة لن تُخلّده كما ستفعل صُوَره وهو يداعب الكرة مع خير من سعت به، في الملاعب، قدمُ.

يذكر رحيل مارادونا برحيل ماركيز.

فحين رحل غابرييل غارسيا ماركيز، أمر رئيس البلاد بتنكيس الأعلام حِدادًا على من اعتبره أعظم كولومبي على الإطلاق. وقد نعاه كبار الكتّاب والشخصيّات العالميّة ورؤساء الدول، بل إنّ بيل كلينتون أعلن فخره بصداقته. وبعد مدّة قصيرة طبعت كولومبيا صورة ماركيز على فئة رفيعة من النّقود، هو الذي لم يجد النّقود الكافية لإرسال رائعته “مائة عام من العزلة” إلى الناشر. أمّا ماكوندو، القرية المتخيّلة التي تدور فيها أحداث الرواية، فسيجري تنزيلها من الخيال إلى أرض الواقع، لتصير بلدة كولومبية من تراب وماء…

قبل ماركيز، رحل بورخيس، أحد كبار الكتّاب في كلّ العصور، ووصمة العار الأبرز على جبين جائزة نوبل، سوى أنّ موته لم يَحْظَ في بلده الأرجنتين بما حظي به موت ماركيز، ذلك أن الرجل رحل في شهر يونيو من العام 86، حين كان الفتى يتقدّم بخطى واثقة نحو كأس المجد. لقد كانت أعراس الأرجنتين في ذلك الشهر تغطّي على كلّ جنازة، وما من دمع إلّا وموقوف على الفرح المَوْعود.

لذلك، ادّخرت الأرجنتين جنازتها الكبرى، الجنازة التي خرج النعش فيها من القصر ليجد الملايين في استقباله، إلى حامل اللّواء: مارادونا.

فمارادونا كان، حقًّا، أقرب إلى ماركيز منه إلى بورخيس. كيف لا وهو من أدخل الواقعيّة السّحرية إلى كرة القدم.





مات مارادونا

مات إله كرة القدم

فبكاه الملك بّيلي

ورثاه صغار الأنبياء

وصمتت لأجله الملاعب.



فلنرفع التعازي

للكرة التي لم تكن سعيدة

أكثر ممّا كانت في كنف مارادونا؟



وداعًا مارادونا

وداعًا أيها الفتى الذي راوغ

حتى العشب والهواء.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]