هنالك صورتان فقط للرواية الفلسطينية تعتبران شرعيتين في نظر إسرائيل: أو الفولكلور أو الإرهاب. من يتجاوز حدود هذين المربعين، يصبح مستهدفاً. ليس غريبا أن يغادر المزيد والمزيد من المبدعين الفلسطينيين البلاد

إذا كانت الفضيحة التي تثار حول فيلم "جنين جنين" الوثائقي للمبدع والفنان السينمائي الفلسطيني محمد بكري تعكس أمراً ما، فإنها تعكس عمق الفاشية في دولة إسرائيل. رغبتها بإخفاء، بل وحتى تزييف الحقيقة. بالنسبة لهذه الدولة، هنالك حقيقة واحدة ووحيدة: حقيقتها هي، صورة الدولة "المتنورة والديمقراطية" التي تحب التفاخر بمساعدة وتمويل الفنانين الفلسطينيين، لكي "يحكوا روايتهم". لكن عن أي رواية يتحدثون؟ هل الرواية في الرواية الفلسطينية فعلا، أو رواية تتماشى مع رواية ورؤيا الدولة؟

اختار بكري أن ينتج فيلما وثائقيا من منطلق لألم الكبير على ما حصل في جنين في ربيع عام 2002. لم يتوجّه لصناديق التمويل الإسرائيلية لدعم فيلمه الوثائقي، وإنما استأجر طاقما صغيرا تضمّن مصورا وفني صوت، وخرج إلى الميدان للكشف عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في مخيم اللاجئين. خاطر بكري بحياته عندما اجتاح الجيش جنين، هدم مخيم اللاجئين وترك وراءه الكثير من القتلى والجرحى والدمار الشامل في المخيم. دخل بكري إلى جنين في حين كانت الجثث ما تزال مدفونة تحت الرّكام، وقام بتوثيق ما شاهده. أجرى مقابلات مع سكان مخيم اللاجئين الذين رووا ما حصل هناك، شهادات ميدانية.

مخرج وثائقيّ

ليس من السهل أن تكون مخرجا وثائقيا. يعني هذا الأمر إنتاج أفلام بدون ميزانية تقريبا، انتظار الدراما الإنسانية التي ستحصل في الميدان، إجراء مقابلات مع أشخاص، رواية القصة الحقيقية التي حصلت والتي ما زالت تحصل، من خلال التصوير. كمن تملك خبرة في كلا المجالين، بإمكاني القول إنه بكثير من المفاهيم، يعتبر الأمر أكثر تعقيدا من مجرد صنع فيلم روائي. صحيح أن الأفلام الروائية فيها شيء من الحقيقة أيضا، الكثير من الحقيقة – حقيقتك الداخلية كمبدعة، وطبعا إم لم يكن الحديث يدور عن أفلام الخيال أو الخيال العلمي، فيجب أن تتسم هذه الأفلام شديدة الارتباط بالواقع وتعكسه. لكن، في الأفلام الروائية أنت تكتبين السيناريو، تختارين ممثليك، تقتلين شخصياتك، تزوجينها، تفعلين بها ما يحلو لك.

مقابل ذلك، في الفيلم الوثائقي، ليس لديك هذه الرفاهيات. تقومين بتوثيق الواقع، والواقع ليس نفس الواقع بالنسبة لنا جميعا. عمليا، ليس نفس الواقع بالنسبة لأيٍّ منا. لو أعطوا مئة مخرج إمكانية إنتاج فيلم مع نفس الأشخاص حول نفس الموضوع أو القصة، فإننا سنحصل على 100 فيلم مختلفين تماما. جميعها حقيقية، جميعها صحيحة. لأنه ليس هنالك شيء يسمى موضوعية – لا في السينما ولا في الإعلام. مجرد اختيار إنتاج فيلم معين أو كتابة مقالة معينة يجعل الأمر غير موضوعي، لأن هذا الاختيار هو اختيارك كإنسان، وهذه وجهة نظرك الشخصية بشأن الموضوع.

ما حصل مع محمد بكري هو قصّتنا جميعا، نحن المبدعون والفنانون الفلسطينيون الذين نعيش في دولة إسرائيل، ونحاول بكل قوانا ورغبتنا رواية قصّتنا، الرواية الفلسطينية. إلا أننا لا ننجح تماما برواية هذه القصة، لأنه ليس هنالك من يريد سماعنا حقا. وإذا كنا ننجح بإنتاج أفلام من أموالنا الخاصة، عندها يقومون بإسكاتنا. ما حصل مع محمد بكري هو نكتة بائسة؛ منذ متى تتدخل المحكمة بالمضامين الفنية وتحدد للمخرج بأن "الصور والموسيقى التي يستخدمها تخدم روايته"؟ وكيف علينا أن ننتج الأفلام أصلا دون استخدام أدوات مثل الصور والموسيقى لأجل رواية القصة؟

نعم، نحن نجنّد التصوير، الصوت، الإضاءة، الديكور وكل الوسائل المتاحة لنا من أجل رواية قصتنا، وإلا فلن يكون هنالك فيلم.

قصة كل فنان

قصّة بكري هي قصة كل الفنانين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل ويحاولون مجابهة القوى العاتية وعدم خدمة المؤسسة الإسرائيلية أو أن يوفّروا لها ورقة التين التي تريدها جدا. لأن ما تريده المؤسسة من المبدعين والفنانين الفلسطينيين هو إما القصة الفولكلورية أو الإرهابية. "فوضى" هي أحد الأمثلة التي بإمكاني استلالها سريعا: جميع الشخصيات الفلسطينية في المسلسل هي إما إرهابية أو عملاء وخونة. لا وجود لأي فلسطينيين آخرين.

الفولكلور موضوع أكثر تعقيدا، بل وأكثر إيلاما لأنه قابل للانزلاق، يمشي بين القطرات والنقاط. يجب خلق شخصيات نسائية فلسطينية تتعرّض لقمع المجتمع الأبوي الفلسطيني وتقتل على خلفية "المس بشرف العائلة"، أو اللاتي يتعرضن للضرب المبرح دون مبرر، نساء يتم تزويجهن بخلاف رغبتهن، أو نساء مع حجاب – هذه هي الشخصيات النسائية الفلسطينية في السينما الإسرائيلية. هذه هي المواضيع التي ستسعد الصناديق بتمويلها للمبدعين والمبدعات الفلسطينيات – بل إنهم لن يسعدوا بالتمويل فحسب، وإنما سيتفاخرون بذلك: ها نحن ندعم الفنانين الفلسطينيين ونمنحهم المنبر لإسماع صوتهن ورواية حكايتهن!

بإمكاني القول، من تجربتي الشخصية، كمن عملت أيضا في أفلام وثائقية وكم أخرجت أفلاما روائية، "فيلا توما"، والذي قامت حوله أيضا الكثير من الضجة بسبب تسميته فيلما فلسطينيا. تم اتهامي بسرقة أموال دافع الضرائب، بالاحتيال، وبم لم أتّهم؟ عشت أشهراً تحت هجمة إعلامية غير مسبوقة. لقد تسابق في حينها ثلاثة وزراء – وزير الاقتصاد نفتالي بينيت، وزيرة الثفافة السابقة ليمور ليفنات بل وحتى وزير الخارجية في ذلك الحين، أفيغدور ليبرمان – للدفاع عن شرف دولة إسرائيل المهدور، وأطلقوا تصريحات للإعلام المحلي والعالمي، بل وحتى دعوى قضائية استمرت لسنوات. مثلتني في الدعوى المحامية سوسن زهر من مؤسسة عدالة. توجّب علينا الوصول إلى المحكمة العليا ليتبيّن لنا أنه ليس هنالك أي قانون يلزمني بكيفية تعريف هوية فيلمي. كل ما كان علي القيام به، بموجب القانون، وهو ما قمت به، هو إعطاء الكريدت والشكر في بداية الفيلم ونهايته للصناديق التي قامت بتمويل الفيلم.

ملاحقة 

في أعقاب قضية "فيلا توما"، أضافت ليمور ليفنات ومجلس السينما بندين للعقود، والتي تلزم كل فنان يتلقى الدعم من صندوق إسرائيلي بتعريف الفيلم على أنه إسرائيلي. بل إن صندوق رابينوفيتش ذهب خطوة أخرى أبعد من ذلك وأجبر المبدعين على التوقيع على مستند ولاء.

منذ ذلك الحين، تبدّل الوزراء، لكن الرقابة الفاشية على الثقافة ازدادت. خلال فترة ميري ريجف كوزيرة للثقافة، ازداد الوضع سوءاً، تم إغلاق مسرح الميدان، فرض الرقابة على العروض المسرحية، تم إنشاء صندوق للمستوطنين، والقائمة تطويل جدا.

إحدى الظواهر المثيرة للقلق منذ ولاية ميري ريجف هي أن المبدعين أنفسهم بدأوا بفرض الرقابة على أفلامهم وعلى المقترحات التي يتقدمون بها لتلقي تمويل للأعمال الوثائقية. بصفتي شخصية قامت بقراءة وتصنيف السيناريوهات لكافة الصناديق في البلاد تقريبا، رأيت التغيير المقلق في التوجه: فجأة، لم تعد هنالك تقريبا أي مقترحات لأفلام سياسية، اختفت الأفلام التي تعالج موضوع الصراع. قام المبدعون والفنانون بأنفسهم بالعمل بدلاً من المؤسسة ومن وزيرة الثقافة.

يجد التشديد: الصناديق لا تمنّ على المبدعين الفلسطينيين ولا تصنع بهم معروفا. هذه الأموال التي تستثمرها في أفلامهم هي أموال الضرائب، التي تأتي من جيوبنا. نحن الفلسطينيون في إسرائيل، نموّل 20% من ميزانية وزارة الثقافة، ومقابل ذلك نحصل على أقل من 1% من الأموال. تتلقى الصناديق أموالها من وزارة الثقافة، التي تقوم بتوزيع الميزانيات من خلال مجلس السينما. أحد المعايير لتلقي الميزانية هو أن تكون هنالك أفلام تم إنتاجها في الضواحي وأفلام قام بإنتاجها أبناء الأقليات، أي مبدعون عرب، روس وإثيوبيين. لذلك، فإن الصناديق تغازل المبدعين الفلسطينيين: ليس لأنها ترغب حقيقة بسماع صوتهم، وإنما بسبب الميزانية.

بالمقابل، فإن هذا يخدم المؤسسة: نجحت الأفلام التي ينتجها الفلسطينيون، كثيراً، في السنوات القليلة الماضية خارج البلاد، بل إنه يتم عرضها في أعرق وأكبر المهرجانات حول العالم. تربح إسرائيل من ذلك ثروة إعلامية كبيرة: ها هي الدولة المتنورة التي تدعم الأفلام الفلسطينية.

الحقيقة المرّة هي أنه من أجل النجاح بصناعة السينما كما يرغبون تماما، قام الكثير من المبدعين الفلسطينيين بمغادرة البلاد. إذا أردتم، يجري الحديث عن ترانسفير ثقافي طوعي. من بين المبدعين القلائل الذين بقوا في البلاد، اتخذ بعضنا قرارا بعدم تلقي الدعم من الصناديق لأفلامنا. نحن لسنا مستعدين لتمثيل دولة لا تمثّلنا، وبسبب ذلك فإننا نحارب بأسناننا من أجل إنتاج الأفلام بدون أموال الصناديق الإسرائيلية.

أتلقى الكثير من التوجهات من قبل المبدعين الإسرائيليين الذين يطلبون مني المشاركة في أعمالهم، والتي تلقت التمويل أو التطوير من طرف الصناديق الإسرائيلية، لكنني لسبب ما أعاني من عدم المصداقية لأنهم يكتبون عن الفلسطينيين وليس لديهم أدنى معرفة بما هو فلسطيني، ولذلك تم اشتراط المنح بأن تتم معالجة مصداقية وموثوقية القصة. بإمكاني القول بملء فمي أن توجّه الإرهاب والفولكلور ما زال موجودا، وبكل قوته. هذا الأمر يثيرني كل مرة من جديد، لدرجة الشعور بالإهانة لمجرد توجّههم إلي بمثل هذه المواضيع.

الملاحقة السياسية في إسرائيل ليست موجهة نحو الناشطين السياسيين فحسب، وإنما ضد الفنانين الفلسطينيين الذين يحاولون إسماع أصواتهم. هذا اسمه فاشية. هنالك خوف عميق من سماع الحقيقة، والحقيقة هي أن هنالك شعب كامل ما زال يعيش تحت الاحتلال، شعب يعاني القمع اليومي. من السهل جدا بناء جدار يهدف لإخفاء الحقيقة، لكن مع كل الجدران، الأسوار والملاحقات وسدّ الأفواه – الواقع موجود هنا، ونحن أيضا هنا، وسنواصل العمل، بكل قوتنا، من أجل كشفها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]