نبية كنعان، تمارا، الإنجيل المنحول لزانية المعبد، تجربة روائية فلسطينية بامتياز، شرفني صديقي الكاتب أسامة العيسة بمطالعتها مبكرًا. وعندما توصف تجربة ما بأنّها فلسطينية فهذا يعني تكامل العناصر المكونة للهوية الفلسطينية في مجتمع ومعمار ووصف وبيئة وكاتب الرواية، إنها رواية الرواية بمنهج حكائي مهم، ينتهج أسلوب اعادة إنتاج أو خلق أسطورة ما ليقدم رؤية المغلوب القوي، والمقهور الذي يفتقد النفوذ، لكنه يملك الحكاية، أمام غول الرواية المضادة التي تعتمد المحو والإنشاء البديل تمامًا، وهو أمر هام في إعادة تصور الهوية الشاملة بعد زلزال النكبات المتتابعة التي ألمت بالفلسطيني، وتمنحه إحساسًا جميلاً وحقيقيًا بالأرض .
صدرت الرواية حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ٢٠٢١ بغلاف كلاسيكي يحمل لوحة عالمية. هذه الرواية تجربة مهمة في الأدب الفلسطيني باعتبارها رواية مؤسِسَة لميثوبيا فلسطينية تقدم روايتها الشعبية والتاريخية بحياد غير متحيز إلّا للنص، تقدم بألمٍ؛ الثنائيات الأبدية التي كوّنت هوية الأرض منذ غابر الأيام، نحن والآخر ، ربهم وربنا، الذين يقطعون القُلف والذين يبقونها، عشّتار ويهوه، العبرانيين والكنعانيين، الأرض والبحر، الزرّاع والتجّار، عبادة يهوه وعبادة عشّتار، وغير ذلك مما تنص عليه عموم كتب الانثروبولوجيا الفلسطينية، لكن بانحياز لمن يحمل القلم ومن يحرث أرض الكلام.
تعني الميثوبيا عمومًا بأنّها خلق الاساطير، استخدمت الكلمة لأوّل مرة في ثلاثينات القرن العشرين في قصيدة ل "ج. ر. تولكين" مؤلف ثلاثية ملك الخواتم (1936م) مع إن الويكبيديا الانجليزية تشير إلى أن المصطلح مستخدم منذ عام 1846م ، لكن تولكين أطلقها على قصيدة صغيرة تتعلق بالأسطورة، بعد حوار مع أصدقائه: سي. س. لويس و هيوجو دايسون، كما وثقها الإذاعي هامفري كاربنتر في حوارات مجموعة (Inkling) التي تأسست في جامعة اوكسفورد في القرن العشرين
وتعرف الميثوبيا على موقع (goodreads.com)، بأنها نوع من السرد الأدبي الحديث، حيث يقوم الكاتب بإنشاء الأساطير الخيالية. تختلف الميثوبيا عن الباركوسية وخلق العوالم(Paracosm) بأنّها محاكاة لأساطير العالم الحقيقي، واختراع أساطير بنفس القوانين التي تحكم الأسطورة تقريبًا، بينما تقوم الباركوسية باستحضار عوالم مفصلة بتاريخها وجغرافيتها، وقوانينها، تتقاطع أو تجلب إليها عناصر من الأساطير الحقيقية من أجل إضفاء المصداقية. أمّا الميثوبيا فتستفيد من أدوات الباركوسية؛ لخلق عالم متكامل يحتوي على ظروف الأسطورة وبيئتها، من أجل إضفاء المصداقية على الأسطورة المبتكرة.(Goodreads, 2016).
وورد في (tvtopes.org, 2015) إن تخليق الأساطير أدبيًا يتم بواسطة الأديب أو كاتب السيناريو، حيث يقوم بدمج أو خلق استكمال الأساطير والثيمات التقليدية، أو اختراع أساطير جديدة تمامًا على مثالها أو موازاتها أو نقيضها.
ينتزع العيسة جذر حكاية ضاربة في عمق التاريخ من بين آلاف القصص في العهد القديم، ويعيد انتاجها ، لنعرف تمار عن قرب، قبيلتها، معبوداتها وطقوسها، محبوبها، ألامها وانتكاساتها وقدرة الأنثى الناعمة فيها على الانتقام. التي تقلب العالم على غريمها، ويقدم رواية طويلة على لسان بطلتها تمار ، نخلة كنعان، في منطقة قرب بحر الملح(البحر الميت) لم يسمها الكاتب، لكنه يمنح الشخصيات ملامحها وانفعالاتها بدءًا من الشخصية الأولى، تمار، مرورًا بيهوذا وصولاً إلى الكلبين المرافقين للعمل وراويته .
ومع أن الميثوبيا تخليق الأسطورة وإعادة انتاجها لم تكن هدف الروائي المباشر كما صرح لي ذات لقاء، لكنّه اعتنى بالتفاصيل والملامح، العادات والتقاليد، حتى مسميات الأشخاص وألقابهم، مجالسهم وعاداتهم وتقاليدهم، بحيث باتت القصة وگأنّها بعثت من جديد، وعبرت الاف السنين بهيئته الواقعية المتناسقة مع ظروفها وتاريخها الحقيقي، لكن في اشتباك معرفي مباشر مع كل شيء، مع المقدسات والتابوهات، مع المسلمات، مع الثنائيات التي لا تسلم من محاكمة هامة وقوية.
يتوج العيسة روايته بعنوان جدلي هام، يحسب لدار النشر تبنيه لما قد يثيره من أسئلة وما قد ينفض من غبار (الإنجيل المنحول لزانية المعبد). وكم من إنجيل منحولٍ أو غير منحول لزانيةٍ أو ملكٍ أو قديسٍ أو قاطعِ طريق، ندري عنه أو لا ندري. هذا العنوان مختلف تمامًا بين عناوين روايات العيسة التي تابعتها منذ المسكوبية وقط بئر السبع، وردة أريحا، مجانين بيت لحم، قبلة بيت لحم الأخيرة، وكذلك رواية. "جسر على نهر الأردن، تباريخ جندي لم يحارب".
تختصر حكاية الرواية في الزواج بين تمارا الكنعانية وشاب من أبناء يهودا كبير العبرانيين، ثم وفاته فزواجها من أخيه، ثم وفاته، ثم رفض الثالث لها، ومحاكمتها، ومحاكمة يهوذا، ثم لجوئها إلى فكرة زانيات المعبد اللواتي يقدمن أجسادهن في طقس ديني وكنعاني قديم قربانا لعشتار، ويكون الزاني بها هو يهوذا نفسه، فتحمل منه وتلزمه بأبوة أطفالها، في انتصار لإرادة الأنثى على الذكورة المتسلطة، وانتصار لرواية الضحية على رواية الغالب، في النهاية ستصبح تمارا النبية غير المعترف بها، وتصبح رواية العيسة انجيلا ًمنحولاً آخر، بينما يصير أبناؤها من أهم الشخصيات،
أعتقد ان مطالعات اسامة العيسة العميقة للعهد القديم والجديد سابقًا، واعتكافه على مطالعة النص القراني حاليًا، وتجواله بين خرائب كنعان وما تلاها من تجارب بشرية ساهمت في تكوين الهوية الفلسطينية؛ ستمنحنا تجربة هامة في تقديم الميثولوجيا الفلسطينية، روائيًا، باعتبار العهدين القديم والجديد ميثولوجيا فلسطينية أساسًا، وبالتالي فإن أي عمل يعاد تخليقه برواية فلسطينية سيكون له آثاره الأدبية على الأقل، وركيزة مهمة في الرواية الفلسطينية عمومًا، وهي خطو في مشوار الألف ميل لتقديم الرواية الفلسطنية بعيدًا عن السياق الكولونيالي وبعيدًا عن البكائيات.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]