عندما غادر عنان بشارة البلاد شابًا بعمر الورد قبل نحو عقدين من الزمن متجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن يحلم، أنه باقترابه اليوم من عقده السادس، سيكون مالك ثالث أكبر شركة في أمريكا الشمالية لفلاتر السيارات، هي شركة "بي دجي آي" (PGI) ، التي أسسها مع شريك قبل نحو 25 عاما، وانتقلت الى ملكيته الكاملة عام 2014.
وشاءت الأقدار أن يتحقق ذلك في عام الكورونا، العام الذي يريد الجميع نسيانه على المستويين الصحي والاقتصادي بشكل خاص، لكن هناك خلف البحار والمحيطات، في مكان ما في القارة الأمريكية كانت أعمال بشارة تزهر أكثر فأكثر، ليطوي صفحة عام 2020 بأهم صفقة في حياته بعد تخطيط وطول انتظار، بإنجاز يحمل في ثناياه حكاية ملهمة، لا نسمع مثلها كل يوم...
حكاية تثبت بأن الأحلام تتحقق بالإرادة والعزيمة والعلم وبعض التضّحيات. حكاية نجاح وتميّز بدأت صدفة، لكن انطبق عليها شطر بيت الشعر القائل : "إذا هبّت رياحك فاغتنمها"، وهو ما فعله عنان بشارة ابن قرية ترشيحا. وشملت مسيرته محطات عديدة لكل منها بصمة في حياته، من تل ابيب إلى واشنطن، من ثم رام الله ، وصولًا إلى نيويورك التي يقيم فيها اليوم. ورحلته حافلة بمدن ودول أخرى، وهي مدعاة فخر للمجتمع العربي في الداخل..
وفيما توشك شركته على تحقيق مبيعات تقدّر بنحو 150 مليون دولار ، يفتح عنان بشارة قلبه لأبناء مجتمعه في هذا الحوار، خاصة للحالمين والشباب الطموحين، يتحدث عن مسيرة غنية وتجربة ثرية، عن بيته الذي يبنيه في حيفا، عن جولاته وصولاته حول العالم ومشاريعه القادمة، وحتى عن الهواء الذي نتنفسه يتحدّث في هذا اللقاء...

قبل بناء شركاته العظيمة في مجال الأعمال، كان بشارة قد بدأ حياته المهنية في معهد "فانلير" في مشروع "المبادرون الصغار" الذي اطلق عام 1991، فكان مسؤولًا عنه في المجتمع العربي. وعمل مع المدارس ومؤسسات أخرى لتدريب الشباب على خوض مجال الأعمال بصورة حقيقية وأن يأتوا بمنتج جديد ويسوقوه. عمل في ذاك المشروع لنحو عام ونصف ثم انتقل الى تل ابيب فعمل في مجال أبحاث السوق مع شركات دعاية وإعلان وتحديد الاستراتيجية الدعائية والتسويقية لمنتجات معينية.

الدراسة في أمريكا .. خطوة على الطريق

"عام 1996 انتقلت الى واشطن للدراسة للقب الثاني في جامعة جورج واشنطن بعد حصولي على منحة ‘فولبرايت‘. كانت التجربة صعبة في البداية. الانتقال الى بلد لا نعرف فيه أحدا أنا والعائلة"، يقول عنان بشارة، مضيفا : " كان عمري نحو 30 عاما. اصطحبت زوجتي منى بشارة ، ابنتي يارا التي كانت في ذلك الوقت ابنة 3 سنوات فقط وابني إيليا الذي كان رضيعا يبلغ عامًا واحدًا. انتقلنا فقط بهدف التعليم للقب الثاني في إدارة الاعمال. كنا سعداء في البلاد قبل ذلك ولدينا أعمالنا واصدقاءنا. كان لدينا دخل محترم في البلاد ، أما في واشنطن فقيمة المنحة لم تتجاوز 1300 دولار، وكنا نحتاج الى تغطية المصاريف. كنا نعيش كل يوم بيومه ونتدبر أمورنا في ظروف المنحة، التي كان من شروطها أن العمل ممنوع".

شاءت الظروف أن صديقًا لعنان يقيم في أمريكا احتاج يومًا إلى مساعدته وهو ما دفعه لاحقًا الى عالم قطع السيارات. في هذا السياق يقول بشارة : " كان لدي صديق يعمل في مجال قطع السيارات. بدأت اساعده لبناء عمله بشكل أفضل. تمكنت من عقد صفقات كبيرة إحداها مع إحدى اكبر الشركات في المكسيك والتي مكنتنا من أن نبدأ في الشركة والشراكة ".

العودة الى البلاد
رغم الصفقات ودخوله شريكا مع صديقه، آثر عنان بشارة العودة إلى البلاد، لكن ذلك لم يدم طويلا : " كان ما أقدمت عليه مجرد مساعدة لصديق ولم يكن في نيتي أن أعمل في هذا المجال. عدت إلى البلاد وأسسنا شركة "عروب دوت كوم" ( Aroob.com)، في رام الله، ، والتي تحولت في غضون سنة واحدة الى أهم ثالث بوابة الكترونية في العالم العربي.
كان لنا شراكة مع ‘والا‘ (البوابة الإلكترونية الإسرائيلية الرائدة في ذلك الوقت) وأيضا مع شركة الاتصالات المصرية. كانت هذه أول شراكة فلسطينية إسرائيلية مصرية وحصل هذا عام 1999. لذلك عندما كنت في أمريكا لم أفكر بالبقاء وإنما أن اشارك صديقي في أمريكا، بحيث يهتم هو بالشركة هناك وأعود أنا لتأسيس شركة في البلاد. سكنّا في رام الله لعامين وعندها بدأت الانتفاضة الثانية عام 2001. ثم شهد العالم انهيارا مخيفا للأسواق المالية. شركات الإنترنت انهارت وفقدت التمويل لأفكار جديدة. وتوقفت الاستثمارات التي كنا نأتي بها من مصر ومن رجال أعمال فلسطينيين واضطررنا لإغلاق الشركة ".

اغلاق الشركة فتح أبواب النجاح في مجال آخر ومكان آخر؟

بالضبط. مع اغلاق الشركة قررت العودة إلى نيويورك والتركيز في العمل الذي كنت قد بدأت فيه. بدأت بإعادة ترتيب وهيكلة الشركة من الأساس بحيث يكون لها مستقبل أفضل، وتكون مبينة على أسس متينة. قررت أخذها إلى اتجاه مختلف، بالتركيز على منتجات تحمل علامتنا التجارية. بهذا يمكن أن نزيد الأرباح. عندما نمتلك المنتج والعلامة التجارية تكون الأرباح أعلى. الفكرة كانت أن نمنح منتجاتنا قيمة مضافة، أن يكون لنا علامة تجارية للشركة وتأسيس أقسام هندسة وتصميم وأبحاث وتسويق. اليوم الشركات التجارية الكبيرة في أمريكا أو شركات السيارات، تتوجه إلى شركتنا، وتطلب منا إقامة خط انتاج جديد لفلاتر السيارات. نقوم بتصميم وهندسة المنتج والتغليف والإنتاج والتسويق والتوزيع، فعمليًا هذه الشركات الكبيرة تريد كل شيء، بحيث تحصل على رزمة كاملة للمنتج ونتولى نحن كل ما يتعلق به.
عام 2014 اشتريت حصة شريكي أيضًا، فأصبحت الشركة كلها لي. هذا منحني قوة وإمكانيات أكبر للتحكم برأس المال الذي بحوزتي وطريقة توجيهه وتوزيعه وتركيزه كيفما أشاء.


الإنجاز الأهم في عام الكورونا

في الوقت الذي كان فيه 2020 عام شؤم للكثير من الناس وحتى الشركات وقطاعات الأعمال حول العالم، كان الأمر مختلفًا بالنسبة لعنان بشارة على مستوى الأعمال، فحمل معه بشائر الخير.
هل بت فعلا صاحب ثالث أكبر شركة لفلاتر السيارات في شمال أمريكا ؟ سألنا بشارة ليأتينا الجواب: "سبق أن اشترينا شركات أخرى صغيرة نسبيًا، لكن هذه أول مرة نشتري شركة خارج أمريكا وبهذا الحجم وهذه نقطة مفصلية في مسيرة شركتنا. أتحدث عن شركة ‘انتر فيل‘. تٌعتبر ثاني أكبر مصنع وموزع لفلاتر السيارات في المكسيك. تزود شركات مثل نيسان التي تصنّع في المكسيك وشمال أمريكا بالفلاتر . وأيضا تزوّد شركات مثل ‘جينيرال موتروز‘ التي تصنع سيارات شيفروليه. ‘انتر فيل‘ مهمة ليس فقط بسبب حجمها. هذه كانت صفقة بعشرات ملايين الدولارات. الاستحواذ على هذه الشركة لا يمنحنا فقط إمكانية توسيع توزيع منتجاتنا في المكسيك، وإنما الأهم انها توفر لنا مدخلًا إلى شركات السيارات الكبيرة مثل نيسان وشيفروليه و ‘فولكس فاجن‘ و ‘جينرال موتورس‘. يعمل في هذه الشركة 450 عاملًا. تشكّل هذه الصفقة مرحلة مهمة جدا في تطور الشركة، فقد جعلتنا ثالث أكبر شركة في شمال أمريكا. هذه الأرقام مهمة بالذات عندما نتعامل مع شركات سيارات كبيرة مثل التي ذكرتها ، والتي تفضّل أن تتعامل مع شركات لديها حجم ومصداقية وقدرة على تزويدها بالكميات التي تحتاجها.

الصفقة كلفتك عشرات ملايين الدولارات، هل كان في ذلك مجازفة ؟
الصفقة مركبة ولذلك احتاجت وقتًا طويلًا حتى ننجزها. هناك عناصر خطورة، لكن الشيء الأهم عندما تقوم بصفقات من هذا النوع، أن تحاول تقليل المخاطرة بقدر المستطاع. هنالك أمور تدركها مسبقا وتخطط لها. وقد تحدث أمور غير متوقعة. مهم في مثل هذه الصفقات إجراء دارسة شاملة للتأكد من أنك تتخذ القرار الصحيح وأن تتحرك في المساحة الآمنة بقدر المستطاع.
نحن عمليًا قمنا بشراء شركة عمرها نحو 40 عامًا وهي واحدة من أنجح الشركات في المكسيك. وأقدمنا على الصفقة مع ‘تيناكو‘ وهي شركة رأس مالها نحو 20 بليون دولار. نحن على قناعة بأننا اتخذنا القرار الصائب وأن مستقبل الشركة في أمريكا والمكسيك سيكون باهرًا جدًا.


عن أي دورة مالية نتحدث وأي حجم في السوق ؟ وكم عدد العمال؟

لدينا في الولايات المتحدة نحو 120 عاملًا وفي المكسيك نحو 450 عاملًا ونحو 10 في الصين وكوريا الجنوبية.
نتوقع أن تصل مبيعات الشركة في هذا العام إلى نحو 150 مليون دولار. الشركة تنمو بنحو15-20% سنويًا.
قررت أن أركّز الشركة وخبراتنا في مجال الفلاتر. الفلاتر واحدة من أكثر قطع السيارات المطلوبة. في أمريكا يتم تغيرها مرتين أو ثلاث مرات في السنة. شركتنا تعتبر اليوم من الأفضل في أمريكا. أضفنا منتجًا مهمّا للهواء الذي نتنفسه. عندما نشغّل المكيّف في السيارة توجد اليوم فلاتر تقوم بتنقية الهواء. التكنولوجيا التي نسوّقها اليوم في عالم الفلاتر تعتبر من أحسن التكنولوجيات في العالم. هذا المنتج يمكنه تنقية الهواء حتى 99% من أي تلويث وغبار ويشمل 4 مراحل فلترة. يوفّر راحة بال بأنكم، انتم وعائلاتكم تتنفسون هواءً نظيفًا. اليوم، كل تسويق منتجاتنا يتركز في شمال أمريكا. هذا يشمل الولايات المتحدة كلها والمكسيك وكندا. وهذا هو أكبر سوق في العالم. قررنا التركيز في السوق الأمريكي قبل التوسّع إلى أوروبا أو غيرها. هذه الدول الثلاث فيها نحو 350 مليون سيارة. لا يوجد أي سوق آخر في العالم فيه هذا العدد من السيارات.

أشرت إلى الهواء الذي نتنفسه، هل ساهمت الكورونا في زيادة أرباحكم ؟!

بالفعل. بشكل عام الشركات التي تعمل في مجال قطع السيارات وخاصة الفلاتر، استفادت من أزمة الكورونا، وارتفعت مبيعاتها. مبيعاتنا ارتفعت بنحو 20% في عام 2020 ونتوقع نسبة مماثلة في عام 2021. عندما تسود أجواء من الخوف من الفايروس، يريد الناس التأكد من وجود فلتر جيّد لتقية الهواء الذي يتنفسونه. وأيضا عندما ترتفع نسبة البطالة يخشى الناس تعطّل مركباتهم، لذلك يهتمون بصيانتها وتغيير الزيت والفلاتر وغيرها، لتخدمهم وليصلوا لأماكن عملهم في الوقت خشية فصلهم.

بناء شركة بهذا الحجم هو حلم صعب المنال بالنسبة للكثيرين، هل بدا لك الأمر كذلك في بداية طريقك؟

ما حققته كان حلمًا وكان يبدو بعيدًا. الحلم تحقق في "بي دجي آي" (PGI) عندما ركّزنا العمل على مجال الفلاتر حيث كانت الفرصة كبيرة. استفدت من أخطائي وتجاربي السابقة. النجاح لا يأتي فقط بأن يعمل الإنسان كثيرًا وإنما من المهم أن نعمل بطريقة صحيحة أيضًا. هذه الأمور يتعلمها الإنسان خلال مسيرته المهنية . الأخطاء في عروب جعلتني افضل.

عادة ما يُقال أن النجاح له ثمن، ما هو الثمن الذي دفعته ؟

بطبيعة عملي أسافر كثيرًا. الأمر متعب أحيانًا. أسافر الى آسيا، الى تايوان وكوريا. قبل أزمة الكورونا كنت أسافر تقريبًا كل شهر إلى مكان ما في العالم. السفر بحد ذاته يستنزف الكثير من الوقت وهو متعب، لكن بشكل عام حياتنا تغيّرت للأفضل. مع الوقت تجد الراحة عندما تكون مستقرًا اقتصاديًا وعملك جيد، في هذا راحة بال.
إن نجاح أي شركة يحتاج إلى فريق عمل جيد. مع الوقت تصبح لديك الخبرة لبناء فريق يتمتع بقدرات ومهارات ليدير الشركة كما يجب . أنا فخور جدًا بالفريق الذي شكلته والذي يخفف الكثير من الضغوطات والمهمات عني. احتجنا 20 عامًا من العمل لبناء فريق عمل رائع يتمتع بكفاءات لأخذ الشركة إلى مستوى آخر.

بعد هذا النجاح، هل تفكر بالعودة الى البلاد، إلى حيفا التي تُحب ؟
البلاد تبقى بيتنا وحيفا لها مكانة خاصة ونحن في مرحلة بناء بيت في حيفا. إقامتنا بطبيعة الحال هي هنا ولكن الهدف من البيت أن نقضي وقتًا أطول في البلاد عندما نزورها. في المرحلة التي وصلناها في الشركة بتنا نسمح لأنفسنا بالبقاء لفترات أطول في البلاد. نحن محظوظون أننا سنتمكن في الفترات القادمة من قضاء وقت مشابه بين أمريكا والبلاد. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]