بعد أن عقدت مؤتمرها التأسيسي في شهر أيار (مايو) الماضي، أعلنت الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) مؤخراً أنها عقدت اجتماعها الأول، وانتخبت رئيساً لها ونائب رئيس وأميناً للسر، وسوف تبدأ بتشكيل مكاتبها ولجانها تباعاً. وكان المؤتمر التأسيسي قد عُقد تحت شعار «نحو سوريا دولة مدنية ديمقراطية» واجتمع ممثلو مكوّنات «جود» بصيغة إلكترونية، بعد أن كانت أجهزة النظام قد أحبطت محاولة أولى لاجتماع المؤسسين «فيزيائياً» في دمشق، أواخر آذار (مارس) الماضي؛ بذريعة عدم توجّه منظّمي المؤتمر إلى «لجنة شؤون الأحزاب» المرتبطة بوزارة داخلية النظام.

الإنصاف يقتضي الإشارة، بادئ ذي بدء، إلى أنّ مكوّنات «جود» تبدو بمثابة إعادة إنتاج أو «نيو لوك» لمَن يشاء، لصيغة «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي» التي كانت قد تأسست مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2011؛ وذلك رغم أنّ الهيئة مشاركة في «جود» بصفتها هذه، مع فارق أنّ الائتلاف الجديد لا يضمّ أيّ مكوّن كردي من تلك التي ساهمت في إطلاق الهيئة، وضمت أمثال «الحزب اليساري الكردي» «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«الحزب الديمقراطي الكردي». فارق آخر يتمثل في أنّ «حزب التضامن» وشعاراته وطن – عدالة – تحرير، هو المكوّن الوحيد المرخّص له بالعمل منذ عام 2011 بموجب قرار لجنة شؤون الأحزاب؛ وثمة دلالة، استطراداً، في وجوده ضمن تجمّع داخلي معارض للنظام، أياً كانت المظانّ حول شكل ومضمون المعارضة التي تعلنها «جود» أو سوف تمارسها. فارق ثالث قد يعكسه العدد اللافت من الشخصيات التي تتولى لتوّها مواقع قيادية ومهامّ تنفيذية في «جود» بمَن فيهم رئيس الهيئة ونائبه «التوافقي» وتنتمي في أصولها السابقة إلى مختلف تيارات الحزب الشيوعي السوري، خارج «حزب الشعب الديمقراطي» غنيّ عن القول.

ومن حيث الرؤية السياسية وبرنامج العمل، يقتضي الإنصاف هنا أيضاً التشديد على سلسلة فوارق، ليست بعيدة عن تمايزات واضحة، بين تصريحات ممثلي «جود» التي أعقبت المؤتمر التأسيسي، والنصّ الرسمي الذي تمّ إعلانه بعيد انتخاب القيادات. على سبيل المثال، تردد في السياق الأوّل أنّ مؤتمر الجبهة أقرّ (ليس من دون تحفظات لدى بعض المشاركين، تمّ تأجيل البتّ فيها) مجموعة مبادئ ناظمة؛ مثل المطالبة بخروج القوى والميليشيات والجيوش الأجنبية، وإيقاف العمليات العسكرية، والشروع في حلّ سياسي يسفر عن ‏تغيير النظام في ظلّ القرارات الدولية خاصة جنيف 1 ومجلس الأمن الدولي 2254، ومقاطعة الانتخابات الرئاسية التي أعلن النظام عن إجرائها…

في المقابل، كانت الرؤية السياسية التي طرحتها «جود» في أعقاب اجتماع هيئتها التنفيذية قد تحدثت عن أفق عام للعمل، غائم أحياناً وإنشائي في بعض فقراته؛ على غرار «إيلاء اهتمام خاص للتواصل مع تجمعات شعبنا حيثما وُجدت»؛ أو «التركيز على إيجاد الظروف المناسبة لحصول المرأة على حقوق وواجبات المواطنة المتساوية دون أي تمييز»؛ أو «وضع خطة عمل تتوجّه إلى القوى والتشكيلات والهيئات السورية، التي تعلن عن هويتها الديموقراطية وعن التزامها بالعمل لتحقيق أهداف المشروع الوطني الديموقراطي، على أرض الواقع»؛ أو، أخيراً وليس آخراً، عزم «جود» على «إنشاءِ موقع رسمي، ناطق باسمها على وسائل التواصل الاجتماعي، بما يوفر لها الإعلان عن قيمها وأفكارها ومواقفها، والإشارة إلى أنشطتها وعملها، كذلك التواصل والحوار وتبادل الآراء، والمعلومات والخبرات، بكل ما يساعدها على أداء عملها بصورة أفضل».

ليست مصاعب العمل المعارض في الداخل خافية على أحد، بالطبع، وليست غائبة عن بصر وبصيرة غالبية السوريين مقادير الانحطاط السياسي والأخلاقي والأدائي التي انحدرت إليها العديد من مؤسسات «المعارضة» الخارجية، الاسطنبولية على وجه خاصّ؛ ولم تبلغ الذاكرة السياسية والحزبية السورية الراهنة مرحلة النسيان، التامّ أو حتى الجزئي، لتجارب مختلف أطراف المعارضة خلال 40 سنة على الأقلّ من نظام «الحركة التصحيحية» الأسد الأب مثل وريثه الأسد الابن. ذلك كله، أو سواه الكثير، لا يصحّ أن يبرر الأداء القاصر أو الكسيح أو الضارّ الذي يمكن أن تنزلق إليه أي أحزاب أو تجمعات معارضة؛ داخلية كانت، على غرار «الهيئة» و«جود» أو خارجية تمثلت في الحصيلة الكارثية لكلّ من المجلس الوطني والائتلاف ولجنة التفاوض وفروعها الشائهة المشوّهة العديدة.

وإذا كان مشروع «جودّ، في الشكل والمحتوى معاً، لا يُذكّر بـ«الهيئة» إلا بمعنى إعادة الإحياء المتعثرة المصطَنعة، في مستوى الـ»نيو لوك» لمَن يشاء هنا أيضاً؛ فليس من غير المشروع أن يعيد التذكير بتجربة أولى سابقة، ومبكرة في عمر الانتفاضة الشعبية السورية، هي الاجتماع الذي انعقد في مثل هذه الأيام، ولكن قبل عقد من الزمان، في قاعة الروابي، فندق «سميرامس». يومها توافد إلى العاصمة دمشق قرابة 175 مواطنة ومواطناً سورياً، انتموا إلى خانة «المثقف» العريضة، من جهة؛ وإلى فئات الطبقة الوسطى، من جهة ثانية. كذلك ميّز الكثيرين منهم أنهم معتقلو رأي سابقون، وهم اليوم ناشطون سياسيون أو حقوقيون، بهذه الدرجة او تلك من الاستقلالية عن أحزاب المعارضة، أو القرب منها. ذلك اللقاء، وكان الأوّل من نوعه منذ عقود، حمل صفة «التشاور» وانعقد تحت شعار «سوريا للجميع في ظلّ دولة ديموقراطية مدنية» وخرج ببيان ختامي، أقرب إلى إعلان سياسي جيّد إجمالاً، بل بدا ممتازاً في بعض فقراته. كما أصدر وثيقة أخلاقية النبرة، لكنها ذات روحية وطنية وديمقراطية جلية، بعنوان «عهد من أجل بلادنا التي نحبّ» تعيد في الواقع استئناف نصّ مماثل، سبق أن تداولته المواقع الإلكترونية سنة 2006.

وفي إطار أعرض كان لقاء دمشق التشاوري خطوة إلى أمام على صعيد فئة المثقف السوري الذي لاح، طيلة أسابيع من عمر الانتفاضة، أنه في واحد من جملة تصانيف: مشارك خجول، أعلن موقفاً مؤيداً، في بيان أو مقال، وعفّ عن النزول إلى مظاهرة؛ وصامت، يكتم موقفاً متعاطفاً، أو حائراً، أو خائفاً، أو متواطئاً؛ ومؤيد للنظام، مروّج لأكاذيب السلطة حول اعتبار المتظاهرين مندسين وسلفيين وعصابات مسلحة، مارس «التشبيح» الثقافي في هذا المضمار أو ذاك. وإذا صحّ تماماً القول بأنّ استعادة المجتمع المدني السوري، أو إحداث ما يشبه «الصدمة» لإيقاظه من سبات، عميق أو سطحي، حقيقي أو كاذب، كانت سمة مركزية طبعت لقاء حزيران (يونيو) 2011؛ فإنّ السمة الأخرى المركزية، التي كانت رديفة ولصيقة، هي أنّ الغالبية الساحقة من الحاضرين في «قاعة الروابي» كانوا يخطون خطوة أولى إلى أمام.

… سوف تعقبها خطوات أخرى لاحقة، إلى الوراء هذه المرّة؛ بالنظر إلى أنّ مجموعات واسعة من المشاركين في المؤتمر انخرطت، إرادياً أو موضوعياً، في سيرورات الجمود أو القصور أو الارتهان أو التبعية التي طبعت غالبية فئات المعارضة السورية، داخلية وخارجية على حدّ سواء. وبهذا المعنى، وضمن أية منهجية تتوخى القراءة النقدية لفكرة «جود» وأدائها الابتدائي والمؤشرات التي باتت كافية حتى الساعة لمساجلتها؛ أنّ جدل الخطوة إلى أمام/ خطوات إلى الوراء هو الناظم اليوم، وحتى إشعار آخر يطول أو يقصر. ورغم أدوار النظام المنتظَرة والمتوقعة، في التعطيل والإحباط أو الذهاب إلى درجة القمع المباشر، فإنّ المسؤولية الأولى عن المضيّ خطوات أكثر مما ينبغي إلى الوراء، إنما تقع على عاتق مكوّنات «جود». وهيهات أن ينفع، هنا، أيّ نجاح مأمول على مستوى اكتساب الـ»نيو لوك»!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]