نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متنوعة، الأزمة الملازمة للسياسة العربية في إسرائيل أعمق وأكبر وأخطر من المحنة المتفاقمة لـ أحزابها المشاركة في انتخابات الكنيست(المشتركة والموحدة).الأزمة بنت المحنة والعكس صحيح فكل منهما مرآة للآخر ويغذّيه وهنا يقتصر الحديث على موضوع المشاركة في انتخابات البرلمان الإسرائيلي الخامسة والعشرين.

من الممكن أن يكون حال الأحزاب العربية،حالنا جميعا،غدا أسوأ من اليوم ويخطأ من يراهن على فكرة الانهيار الكامل من أجل بدء البناء من جديد. الفكرة خاطئة لعدم وجود فراغ في السياسة وفي مرحلة الترّدي العامة الراهنة( عربيا وفلسطينيا ودوليا) سيؤدي الانهيار بالضرورة لـ ظهور "روابط قرى" جديدة تتعامل مع السلطة الإسرائيلية بدون كرامة وترضى بالفتات وتصبح خيمتنا بدون أعمدة وسفيتنا بلا مراسي وربما بلا بوصلة.

هل يعقل ألا يرى قادة الأحزاب أن الحالة "تعبانة" من أصله نتيجة عدة أسباب وأن ما تقوم به أياديهم يزيد طينتها بلة؟ فقط من كان به صمم وعمى لا يرى حالة الإحباط والاشمئزاز لدى المجتمع العربي من أداء هذه الأحزاب وأولوياتها وتعاملها مع بعضها البعض ومع الجمهور.

منذ انتخابات الكنيست المبكّرة الأولى عام 2019 تراكم وتؤجّج عدة أسباب حالة النفور والعزوف من الصناديق في الشارع العربي أولّها الإرهاق المنوط بهذه "الحفلات الانتخابية" المتتالية،رفع سقف التوقعات من المشتركة،فقدانها لـ رؤية وبرنامج وبقائها "قاربا" لـ اجتياز نهر نسبة الحسم ثم تفكيكها مرتين وربما ثلاث،عنصرية السياسة الإسرائيلية التي تدفع المواطن العربي للقول"رضينا بـ البين والبين ما رضي فينا"، تواصل الأزمات الحياتية واشتدادها وعدم وفاء الحكومات بـ تعهداتها حتى "حكومة التغيير" مما يؤجّج السؤال حول جدوى العمل البرلماني من هذه الناحية(التأثير مقابل التمثيل) وغيره.

كم مرة تلدغ السياسة العربية من جحر واحد؟

‏على خلفية ذلك وغيره فإن استمرار الأحزاب العربية في المناورات والمسرحيات والتصريحات الفارغة سيزيد طينة المشتركة بلّة كما حصل في مرات سابقة، ويهّدد أيضا احتمالات "الموّحدة" أيضا. المناورة السياسية أمر مألوف ومشروع في السياسة وسحب النائب النشيط أسامة السعدي ترشيحه في يوم الانتخابات الداخلية للعربية للتغيير هي مناورة سياسية تهدف لتحسين مواقع الحركة وصورتها العامة، للضغط على الجبهة وامتصاص انتقادات حول علاقة القربى بينه وبين رئيس الحركة النائب أحمد الطيبي. هي مناورة ولا نقول مسرحية سياسية لكنها أقرب لأن تكون مغامرة غير محسوبة ممكن أن تعود كيدا مرتدا على "العربية للتغيير" و تطلق "عش دبابير" ضدها فتعّمق أزمة الثقة بين الجمهور العربي وبينها بل كل المشتركة ومجمل السياسة العربية.عندما سيتم رفض اللجنة المركزية لـ سحب السعدي ترشيحه وتثبيته من جديد لن يعتبرها الجمهور عملية حقيقية وستطلق سهام التشكيك والنقد ويزداد الابتعاد عن الصناديق بل تتضر صورة السياسة العربية.

كذلك بالنسبة للتجمع الوطني الديموقراطي، فعند مراجعة كل ما صدر عنه في الشهر الأخير من تصريحات بالأساس وبعض التحرّكات المتوجّة بـ "الخيار الثالث" نجد جملة من التناقضات والتخبّطات والفجوات بين الموجود وبين المفقود،ويستنتج المراقب أن هناك خلافات داخلية وحسابات غريبة داخل التجمّع تؤثّر على هذه التجاذبات والمناورات وعلى مكانته كـ حزب يتعرض للتراجع منذ سنوات. من يريد أن ينهض من جديد ويحمل مشروعا سياسيا ويشيّد عمارة لابد من امتلاك الأرض والمواد والخرائط والعزيمة:الرغبة والقدرة. فكرة التيار الثالث جديرة لكن لها استحقاقات أما إخراجها وتوقيتها فيلقيان بـ الظلال على مدى جديتّها. للتجمع الوطني رصيد وينبغي أن يبقى حاضرا في المشهد السياسي العربي في الداخل خاصة أن جهودا كثيرة بذلت في الماضي لبنائه ويجب عدم السماح بـذهابها سدى. كان حريّ بـ التجمع أن يعلن بوضوح إنه يستحق أكثر من تمثيله الحالي ضمن المشتركة مقارنة مع العربية للتغيير ويطالب بقلب المعادلة معها هذه المرة بدلا من المشاركة في تجاذبات تمس به، تستنزف هيبة المشتركة ومكوّناتها وتدفع جمهور الهدف للمزيد من السلبية.

الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة حتى الآن لم يتحّرر بعض مسؤوليها والناطقين بلسانها عن التوّرط في تصريحات وخطابات إعلامية فظّة وخشبية ومنفّرة وتصّب الزيت على الخلافات بين مكوّنات المشتركة. هذا ناهيك عن انشغال الجبهة المفرط في سياسات المحاور الداخلية القائمة على تباين في المواقف السياسية وفي حسابات شخصية بين رئيسي المشتركة والمتابعة أيمن عودة ومحمد بركة رغم محاولاتهما إنكاره رسميا.
ورغم كل ذلك هناك من يظن في قيادة المشتركة أن عملية المحاصصة ستنتهي قريبا وعندها يهطل المطر الأول يومنظف الساحة من قمامة السياسة،تعود المياه إلى مجاريها فـ تنطلق الحملة الانتخابية وتمحى آثار التراشق ويتوقف النزيف،نزيف الهيبة وتآكل المكانة،وستكون النتيجة على الأقل محافظة المشتركة على ستة مقاعدها. يفوت صاحب هذا التقدير أن أثر الفراشة لا يرى، وأن التأثير على وعي الجمهور له مواسمه وتوقيته ودينامكيته. مثلما يفوته أن انشغال الأحزاب العربية بما ذكر بالأساس وأن التشرذم وتقسيم المقسّم كل ذلك سيترك مفاعيل سلبية في وعي المواطن العربي تولّد في داخله رغبة بعدم المشاركة في الانتخابات الخامسة. حمل معروف ومولود متوقع : صناديق فارغة تقريبا.

وربما يكون الواقع على الأرض أخطر مما تتنبأ به استطلاعات الرأي(نسبة التصويت تنحدر إلى دون الـ 40%) خاصة أن الأحزاب العربية كررّت ارتكاب أخطائها وخاطبت جمهورها عبر منصات إعلامية فقط دون تعبئة وتسييس وشروحات وتوضيحات مستحقة لبعض القضايا المحتاجة للتوضيح منها كـ مثال صعوبة العمل في ظل عدم الاستقرار السياسي وسقوط الإئتلافات الحاكمة في الفترة الأخيرة.

الهزة ستطال الجميع

من جهتها ربما تنظر الموحدة برضا وفرح لما تشهده سفينة المشتركة في بحرها العكّر لكن المزاج السلبي في المجتمع العربي حيال الكنيست الآخذ بالتعمق والتصاعد من شأنه أن يصيبها هي الأخرى بجراح فـ حمم الزلزال تطال أحيانا مواقع أبعد من قمة الجبل البركاني المتفجر. مسيرة التمثيل العربي في الكنيست تشبه أكثر من أي مرة منذ انتخابات الكنيست الأولى عام 1949 مسيرة التايتنيك بكل ما فيها من أسباب الارتطام.

رغم أن الموحدة لها جمهور مؤيد للاندماج التام وتعمل دون خلافات وبهدوء فهذا الخطر عليها وارد خاصة أن هناك من صوّت لها وخاب أمله من قلة المنجزات الموعودة أو من كثرة أخطاء بعض ساستها كـ تصريحات غير موفقة وخاطئة لرئيسها النائب منصور عباس رغم بيانات تصحيحها، وغيره.

إن الإسراع في ترتيب الأوراق واستبدال التراشق والكلام الفارغ بـ نقاش سياسي حقيقي حول المراد والموجود، الحقوق السياسية والمدنية،موازنة بين روايتنا وأحلامنا في الماضي والمستقبل وبين حاجاتنا في الحاضر ( ضمن مسيرتنا الطويلة جدا) ربما يساهم في منع الانهيار وسقوط كل الأوراق في أيلول وتحاشي بقاء الشجرة السياسية عارية تماما. وهنا يتحمل الإعلام والصحفيون العرب مسؤولية كبيرة بالتمسك بالنقد والحذر من التبني الواعي أو غير الواعي لرواية السياسيين المعلنة (أو رواية الصحافة الإسرائيلية)والمشاركة في ترويجها فهذا يخدم السياسين العرب ربما لكنه بالتأكيد يمس بـ مصلحة من يرى بهم سفراء له،المجتمع العربي.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]