اسمي مئير بن شاحر، ولدت وترعرت وحتى الآن انتمي إلى الوسط المسمى بـ "الصهيونية المتدينة". حتى الأسابيع الأخيرة لم أفكر لمرة أنني سأكتب متوجهًا للمواطنين العرب، وهذا محزن إلا أنه الواقع. رغم ذلك، فأنّ المعرفة الوطيدة على مدار السنوات مع أبناء "مجموعتي التي انتمي اليها"، اضف إلى ذلك التحولات التي تمر بها دولة إسرائيل عامةً، والتحولات في المجتمع القومي المتدين خاصةً، دفعتني إلى الفهم أخيرًا أنّ الطريق الوحيدة لمنع كارثة أخلاقيّة وإنسانية، والتي من المتوقع أنّ تصيبنا جميعًا، هي التعاون بشكل عام وعلى وجه الخصوص في الانتخابات القريبة.

تأسست دولة إسرائيل، كدولة يهودية وديموقراطيّة. هذا شعار لطالما لامس رؤيا وتطلعات اليسار، المركز، واليمين المعتدل في صفوف الشعب اليهودي. من جهة، فأن الحديث عن دولة يهودية التي من أجلها تأسست وناضلت الحركة الصهيونية، وهي في ذات الوقت دولة تحافظ على القيم الديموقراطية واللبرالية التي تعزز حضورها أمام دول أوروبا وأمريكيا.

أفترض أنه بالنسبة للكثيرين في الجمهور العربي، شعار "اليهودية والديمقراطية" يبدو وكأنه شاشة باهتة بالكاد تستطيع إخفاء الظلم والتمييز الخفي والمفتوح الذي عانى منه، ولا يزال، الجمهور العربيّ. تحت وطأة هذا الشعار، وعلى الرغم من عدم وجود حزب عربي عضوًا في الائتلاف حتى العام الماضي، لا يزال الكثيرون يتلقون تعليمًا أكاديميًا (حتى لو لم يكن من الممكن في كثير من الأحيان الوصول إلى مراتب يصل إليها الشباب اليهود)، كما وخدمات الضمان الاجتماعي (حتى لو يحصل العربي على نسب أقل من اليهوديّ)، وحتى على قدر كبير من حرية التعبير.

ما لا يعرفه الجمهور العربيّ، هو أن أجزاءً كبيرة من الجمهور الديني القومي يرون بـ شعار "يهودية وديمقراطية" على أنه إشكاليّ. ففي الوقت الذي سعت به الصهيونية العلمانية، والمتمثلة بحزب العمل على مدار أجيال، حزب يش عتيد، والليكود، نحو إقامة دولة ديموقراطية بنمط غربيّ مع تفضيل لليهودية واليهود، اجزاءً من الجمهور اليهودي المتدين تعاملوا مع الدولة "اليهودية والديموقراطية" وكأنها مرحلة أولى في مراحل تأسيس مملكة اليهود. دستور هذه المملكة سيكون وفقًا للشريعة اليهودية (وفق تأويلات معينة)، ووسط هذه المملكة يتم تأسيس بيت المقدس الذي سيكون مركزه "اورشليم" (القدس). حقيقةً، حتى اليوم لا يوجد ملك معين يفكر فيه الجمهور اليهودي المتدين، إلا أنّ بقية الجوانب مطروحة اليوم على أجندة ونقاش هذا الجمهور.

برأيي، أنّ معظم المجتمع العربيّ، وحتى اليهودي غير المتدين، بات على دراية بالمخططات الداخلية للجمهور اليهودي المتدين حيث انكشف عليها ضمن قنوات التلفزة المختلفة: ريشيت بيت، قناة 12، واينت، وإلى آخره. لكن، إلى جانب هذه الوسائل، هنالك شبكة متشعبة أكثر من وسائل الإعلام التي تخاطب الجمهور اليهودي المتدين، وتنال نسبة كبيرة من المشاهدة والشعبية. من يرغب فعلا إلى ما يصبو كل من سموتريش وبن غفير، فعليه الوصول إلى احدى الكنس وقراءة النشرات التي توزع هناك مجانًا. ولفهم الموضوع جيدًا، سأطرح عليكم مثالا واحدًا من نشرة معروفة جدًا تحت أسم "العالم الصغير"، التي وزعت في كل الكنس وتحظى بنسبة إنكشاف عاليّة جدًا.

بإعتقاديّ، القراء القدامى ما زالوا يتذكرون "يوم الأرض" في الجليل- المظاهرة ضد مصادرة أراض لمواطنين عرب لصالح إقامة مدينة كرميئيل والتي تحوّلت إلى اشتباكات عنيفة قتل فيها ستة أشخاص. لم يوقف "يوم الأرض" سياسة "تهويد الجليل" التي أدت إلى مصادرة عشرات الآلاف من الدونمات لغرض إقامة مستوطنات لليهود فقط. يجب أن يكون مفهومًا أن ما يبدو للجانب العربي على أنه سياسة مصادرة أراضِ عدوانية وقومية، يبدو للجانب الديني القومي أنه "متأخر للغاية". نشرة "العالم الصغير" كانت قد خصصت لهذا الموضوع مقالا جاء عنوانه بـ "من قانون القومية وحتى السياساتيّة في الجليل".

وفق كاتب المقالة، المحامي زئيف ليف، فأن دولة إسرائيل أوقفت منذ سنوات الـ 90 تمامًا سياسة تهويد الجليل بناءً على قرارات المحكمة العليا، الأمر الذي يعد أساس البلاء بالنسبة للجمهور القومي المتدين. زيئف ليف، لا يرى سياسة التهميش، غياب البنى التحتية الأساسية، كما وغياب المخططات اللوائية لتطوير البلدات والقرى العربية في الجليل. وفق ليف، فأن الواقع مغاير تمامًا، بإعتقاده فأن أنظمة الحكم في إسرائيل تنبت المفهوم التقدميّ غير المعترف بالحقوق القومية للشعب اليهوديّ، والعرب، وكونهم أقلية "مستضعفة"، يتمتعون بإمتيازات وتسهيلات تمكنهم من تملك الأراضي والتطور في الجليل. وما هي رؤيا ليف وتطلعاته، كما وسموتريش وبن غفير؟ العودة مجددًا إلى سياسة تهويد الجليل.

ومن الجليل إلى القدس. اذا ما كان إقامة "جبل الهيكل" و- "بيت المقدس" سابقًا، مسألة تعود لمجموعة هامشية وغريبة الأطوار، اليوم تحوّل هذا الهدف إلى مركزيّ في كافة صفوف الجمهور القومي المتدين. في نشرة "العالم الصغير"، من الإسبوع الفائت، تم نشر مقال موسع مع شاب علمانيّ، اسمه توم نيساني، والذي يكرس حياته في تنظيم فعاليات مؤسسة لـ "بيت المقدس". نيساني يصل بوتير ثابتة إلى "جبل الهيكل"، ينفخ في البوق وحتى أنه اجرى مراسيم عرسه في "جبل الهيكل". وفق نيساني الهدف الأساسي هو إقامة "بيت المقدس". عندما سئل عن إذا ما كان يملك أي مخاوف من إندلاع حرب مع إقامة "بيت المقدس"، رد بالقول "لدينا جيش قويّ".

وهنا نصل إلى جانب مركزي وغير معروف بتاتًا ليس فقط للجمهور العربي انما ايضًا لقطاعات واسعة في صفوف الجمهور اليهودي. قنوات الإتصال المركزية تمرر رسالة، علنيّة وسريّة، وفقها دولة إسرائيل لا ترغب بالحرب. رغم وجود الجيش، رغم من أعمال يقوم بها ويعتبرها الكثير على أنها قاسية وصارمة، فأن أغلبية المجتمع اليهودي غير راغب في الحرب. عدم الرغبة هذه لا تنبع من تطلعات نحو السلام، انما من الثمن الذي تخلفه الحرب: موت أولا وافراد ونساء وهم في مقتبل عمرهم.

بالنسبة للمجتمع في إسرائيل، التحوّل إلى عائلة "ثكلى" يجعلها مقدسة، الفجيعة أمر مقدس إلا أنّ المجتمع في إسرائيل لا يرغب بالمزيد منها. في ذات النشرة من "العالم الصغير"، نشرت مقابلة مع رجل تربية يكرس حياته من أجل ترسيخ "ارث المعركة" (البطولة والتضحية التي يقدمها الجنود في الحرب) في نفوس اليهود. هو يفسر أنّ الحرب أمر سيء، محزن، ومؤلم إلا أنها "الخطوة الأولى في مسار الخلاص". مما يعني للوصول إلى "الخلاص" (والتي فيها يتم تأسيس بيت المقدس) هنالك ضرورة للقتال، وفق وصفه بدقه: "كل حرب تحرّك قوة المسيح، أو بكلمات أخرى، تقربنا إلى الخلاص".

الأرض، بيت المقدس، الحرب. هذا هو المثلث الذهبي لأجزاء واسعة من الجمهور القومي المتدين. كل سبت، كما في كل سبت، وعلى مدار سنوات، الأرض، بيت المقدس والحرب، مصطلحات تتكرر بطريقة أو بأخرى في النقاش في حيز الجمهور المتدين القومي. وهذه هي نظرة ورؤيا سموتريش وبن غفير ومئات الآف من داعميهم.

هذه الانتخابات لا تتعلق بنتنياهو بل تتعلق بالأرض وجبل الهيكل والحرب. إذا وصل نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى، فسيكون ملتزمًا بسموتريتش وبن غفير والقيم التي يدافعان عنها ويسعون لتطبيقها. إلى أين سيقود كل هذا؟ هناك احتمال معقول أن يؤدي ذلك إلى العنف وربما كارثة إنسانية وأخلاقية (النكبة). أعلم أنكم سئمتم من مطالبة اليهود لكم بالتصويت لإنقاذ "معسكر التغيير". صدقوني، معسكر التغيير ليس في صلب اهتمامي، ولهذا أطلب منكم أيضًا التعرّف على الخطاب الداخلي الرائج في المجتمع الديني القومي، وهو مجتمع قوي ومنظم ومؤثر، في طريقكم إلى صناديق الاقتراع. ترك المنزل يوم الانتخابات التوجه إلى صناديق الإقتراع والتصويت، سيسمح لنا جميعًا بالبقاء في المنزل وإعادة صياغة رؤيا "الحياة المشتركة"، الملائمة لنا جميعًا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]