في الوقت الذي تتسع في الحرب مُخلِفة اعدادًا إضافية من الضحايا، يرتفع منسوب التوتر في المجتمع أكثر وأكثر، التوتر الذي يُحركه ايضًا ملاحقات ممنهجة ومتتاليّة للمجتمع العربي لمجرد التعبير عن رأيه وموقفه، علمًا أنّ التعبير عن الرأي ليس فقط حقٌ، انما حاجة طبيعية لإفراغ الضغط والحزن ومشاركته مع عددِ آخر من الأفراد.

ويطال هذا التوتر المجتمع عامةً، ويصل ايضًا إلى المؤسسات الطبيّة التي من المُفترض أنّ تعمل بشكل مهني وانسانيّ، حيث تعد المؤسسات الطبيّة حيزًا آمنًا، الأمر المتعارف عليه أخلاقيًا، فالمريض الذي يصل إلى المستشفى جل ما يحتاجه هو رعاية طبيّة، رعاية ليست مشروطة بمواقفه وآرائه وخلفيته القومية.

وسجل الجهاز الصحيّ في إسرائيل عددًا من الحالات التي اكدت أنّ مفهوم "الحياة المشتركة" الذي سبق وأنّ روّج له الجهاز ابان ازمة وباء الكورونا، وصفق له المجتمع عامةً، انهار ايضًا مع انهيار كل المفاهيم الأخيرة التي شهدناها، تلك السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية والدبلوماسيّة.

طبيب عربيّ، خدم 18 عامًا، يُفصل من عمله لمجرد التعبير عن الرأي، مُمرضة تبعد ايضًا عن عملها في مشفى في المركز لأنها "لم تقف إلى جانب الم المجتمع الإسرائيلي" (كما جاء في رسالة الإبعاد)، وممرضة أخرى تحاكم وتقتاد إلى السجن وكأنها رئيس تنظيم إجراميّ لمجرد منشور تعبيري، علمًا أنّ أكثر من 210 جريمة وقعت في مجتمعنا وكل ما شهدناه هو بيانات شُرطيّة عن لوائح اتهام لا تتعدى الـ 2%، فيبقى المجرم الحقيقي حرًا طليقًا وتقبع الممرضة، ابنة الـ 55 عامًا، وخدمة لأكثر من 33 عامًا في المستشفى، في السجن مع ظروف تحقيرية لا يتحملها أي انسان عاقل.

بعد أكثر من 20 عامًا من العطاء، اعتقلت وكأنها رئيس تنظيم إجراميّ والرئيس حرٌ طليق!

وهذه قلة من كم هائل من الحالات التي وصلت إلى "ائتلاف غرفة الطوارئ"، حالات تشير إلى أنّ العربيّ، بغض النظر عن مكانته، عن مدى عطائه، عن مساهمته، يُحاكم اليوم فقط لأنه "يقبع بين المطرقة والسندان"، بين مواطنته وبين هويته.

الجهاز الصحيّ في إسرائيل، تجاهل في هذه الحرب، بفعل مجزرة السابع من اوكتوبر الأسود وما تلاها من أحداث، مساهمة الطواقم العربية له. هي ذات الطواقم التي فضّلت الشرطة بتسميتها بـ "الإرهابيين"، التي تصل الليل بالنهار لخدمة الجمهور عامةً، هي نفس الطاقم التي تجندت في صباح الـ 7 من أكتوبر للعمل بكل جد لمحاولة الإنقاذ، هي نفس الطواقم والتي لو كانت تنوي الإقدام على أي عمل "ارهابيّ" (كإدعاء الشرطة)، لقامت بذلك منذ زمن، وليس بعد سنوات من العمل الشاق والمضني، نفسيًا وجسديًا.

هي ذات الطواقم التي تعيش معلقة ما بين عالمين، الشخصي والمهني، بين هويتين، بين مجتمعين، وكل ما تملكه هو التعبير، هو تسجيل موقف لا أكثر.

سجلت موقفًا؟! سيلقي بك الزملاء في مشرحة المواقف وانت حيًا!

لإعداد التقرير التالي توجهنا إلى عددٍ من الأطباء، الطبيب "م" (الاسم محفوظ في ملف التحرير)، هو طبيب معروف، في البحث عن إنجازاته عبر محرك البحث في غوغل نصل إلى 7 أو 8 صفحات من التغطية الخاصة عنه، قال لنا "أفضل عدم الحديث عن الموضوع". وعند السؤال عن السبب كان الرد "التعامل سيء للغاية، لا أخاف الفصل، فلي مستقبل في أي مستشفى عالميًا وحقيقة بت أفكر بالموضوع بشكل جديّ، لكن بالنسبة للزملاء لن يتفهموا أي موقف، وستُلقى في "مشرحة" أعدها الزملاء لك وأنت حيًا".

وأضاف الطبيب "م"، "انت ملاحق ليس لموقف سياسيّ، قد يعتبره البعض سياسيًا، لكن هو موقف انسانيّ بإمتياز، انا طبيب تعهدت انا اعالج الجميع، انّ اتعامل مع الجسد الذي امامي بغض النظر عن هويته، يُطلب إلي التوقيع على عريضة من أطباء تشرعن "قصف مستشفى". حقيقة، لا أذكر أني سجلت أي موقف سياسي طوال خدمتي، لكن نظرت إلى العريضة ورغبت بالإستفراغ. هذا العمي مؤلم، والصراخ الداخلي "ارفعوا يدكم عن الأطباء والطواقم الطبيّة" باتت ضجيج داخليّ، ضجيج مؤلم حقًا".

عدا الممرضة النصراوية التي فُصلت أمس مساءً، لأنها لم تقف "إلى جانب ألم الإسرائيلي"، يسجل مستشفى الكرمل (حيفا) اليوم توترًا واضحًا في المجال. ففي الوقت الذي تحاول الممرضات العربيات عدم تسجيل أي موقف، خوفًا من الملاحقة والاقتياد إلى السجون وتصوريهم بطريقة مُذلة ومهنية ونشر صورهم لبقية المجتمع لمحاكمتهن ميدانيًا، وقد يكون افراد من المجتمع ممن قدمن له خدمة طبيّة سابقًا، تقوم ممرضة أخرى، يهودية، باستفزاز المشاعر.

حول الموضوع تقول لنا مُمرضة، انّ الأجواء مشحونة جدًا داخل المستشفى، بسبب ممرضة "يهودية" التي تقوم باستفزاز دائم.

وحول طبيعة الاستفزاز، قالت الممرضة، أنّ الحديث عن ممرضة مسؤولة ومنصب مرموق، تقوم بنشر منشورات عدائية وحتى أنّ في أحد المنشورات كتبت "سنحاسب كل العرب يا شراميط" (نأسف للنص، لكن هذا ما جاء على لسانها). مضيفة: كيف يمكن العمل إلى جانب هذه الممرضة؟! كيف يمكن أنّ نثق بها؟!

رد مسؤول من مستشفى الكرمل

توجهنا إلى الناطق بلسان مستشفى الكرمل، حول الموضوع، وجاء في الرد منه: يعمل مستشفى الكرمل دائمًا وحتى الآن على ضمان أفضل رعاية طبية لكل من يأتي عبر أبوابه دون اختلاف في الدين أو العرق أو الجنس أو العمر أو الجنس. ينتمي موظفو المستشفى المتفانون إلى جميع المجتمعات والقطاعات في إسرائيل ويعملون جنبًا إلى جنب في فسيفساء بشرية متنوعة وفخورة".

وأضاف الرد: "حتى قبل الحرب، أقيمت في المستشفى العديد من الأنشطة لتعزيز التسامح والاحترام المتبادل. وقبل بداية الحرب أرسلنا رسائل ندين فيها العنصرية، وحددنا حدود الخطاب، وطالبنا الموظفين بالاعتدال والمسؤولية."

وأوضح: إن إدارة المستشفى تأخذ على محمل الجد مشاركة الموظفة لمنشور عنصري وعندما علمنا بالأمر تصرفنا على الفور: أ. طُلب من الموظف إزالة المنشور وقامت بذلك على الفور. ب. تم استدعاء الموظفة لمحادثة تحذيرية صارمة مع إدارة المستشفى اعترفت فيها بخطئها وندمت على فعلتها واعتذرت. ج. تم إيقاف الموظفة عن عملها كـ "ممرضة مسؤولة ورئيسية". د. اعتذرت الموظفة امام زملائها في القسم الذي تعمل فيه.

وختم الرد: "يجب التأكيد على عدم وجود حالات فصل من المستشفى بسبب تصريحات عنصرية. إدارة المستشفى تدين الخطاب العنصري والمسيء بكل الطرق وسنواصل العمل في جميع الأوقات للحفاظ على بيئة آمنة لجميع موظفينا، العرب واليهود على حد سواء".

من يُعالج، المُعالِج؟!

الممرضة من مستشفى الكرمل، قالت معلقة على الرد: في الواقع الذي نعيشه، وهو مركب ومعقد بشكل كافٍ، هذا الرد يُشجع الطواقم، التي تعمل بتفانٍ من أجل هدف واحد ووحيد: الإنقاذ.

وأوضحت: لكن هنالك حاجة فعليّة إلى العمل بصورة معمقة مع الطواقم في المستشفيات عن "الهويات والانتماءات"، نحن بحاجة ايضًا إلى العلاج. هذا صحيح اننا نضع هويتنا خارج المستشفى، إلا أننا لا نستطيع أنّ نلغيها، وهذا ليس موقف وطني، هذا طبيعة بشرية وإنسانية بإمتياز، انت لا تستطيع أنّ تلغي من أنتِ، من تكون، ان تكون انتقائيًا ببكائك على طفل قتل!. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]