سيُذكر عام 2023 دائمًا بأنه لم يكن عامًا عاديًا على الإطلاق، فأحداث السابع من أكتوبر والحرب التي تلتها، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم، هي حتمًا أحداث غير اعتيادية وغير مسبوقة، ولكن على المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، حتى قبل السابع من أكتوبر، كان هذا العام استثنائيًا، فهو عام ارتفعت فيه حدة وكمية جرائم القتل في المجتمع العربي بشكل غير مسبوق، ربما في التاريخ، ومؤكدًا في تاريخ دولة إسرائيل، 247 جريمة حتى نهاية العام (مقابل 112 في العام الماضي، وأرقام مشابهة في الأعوام الأخيرة، والتي كانت تعتبر أعوامًا دامية)، والجرائم هذا العام وصلت إلى مراحل متقدمة أكثر، فبضعها كانت جرائم خماسية ورباعية وثلاثية، أرقام مهولة ومرعبة، وحالة فوضى رهيبة.

"بلا شك فإن الصعود المذهل في عدد ضحايا القتل في ظل وجود وزير الأمن القومي بن غفير، يثبت أن مسألة الجريمة هي مسألة تتعلق بالسياسة، والسياسات التي تتبعها الدولة تجاه مواطنيها" يعلق المحامي رضا جابر - الباحث والمختص في القانون والجريمة والمدير السابق لمركز "أمان"، ويضيف مؤكدًا أن هنالك أمور ثابتة، وتحصل حتى قبل بن غفير: "الثابت هو أن الدولة ومؤسساتها بشكلٍ مباشر وغير مباشر، تتعامل معنا ليس كمواطنين وإنما كمجموعة للسيطرة والمراقبة، لذلك فهي لا تحاول ان تبذل جهدًا لحلّ مشاكل المواطنين العرب، كما تفعل للمواطنين اليهود. هذه هي السياسة ونتائجها هي أزمات لا تحل فتتحول إلى أزمات مستعصية. كذلك الجريمة".

 نقطة مفصلية

د. وليد حداد، المختص في علم الاجرام، يؤكد بدوره أن عام 2023 بأكمله شكل نقطة مفصلية في مسيرة المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، في هذا العام حدثت ثلاثة أمور جوهرية أثرت على الوعي العام ومفهوم المواطنة؛ أولًا، تولي الوزير بن غفير وزارة الأمن القومي. ثانيًا، تضاعف منسوب الجريمة. ثالثًا، الحرب على غزه وتداعياتها على الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل"، وأضاف حداد: "في بداية العام ومع تشكيل الحكومة راهنتُ في تحليلاتي آنذاك، بأن نتنياهو لن يسلم بن غفير حقيبة وزارة الأمن مع صلاحيات حيوية للمجتمع الإسرائيلي، وذلك من خلال متابعتي ومواكبتي لمسيرة نتنياهو السياسية ويقيني بأنه لن يغامر في مواضيع الأمن والاقتصاد، ومع ذلك تولى بن غفير وزارة الأمن القومي، وأحكم قبضته على جهاز الشرطة ومصلحة السجون، وكانت البداية مع إلغاء كل مشروع أو حتى مبادرة لتخفيف وطأة الجريمة بالمجتمع العربي والتي كانت حكومة بينيت- لبيد قد بدأت بها حتى بدون فحص الجدوى من هذه المشاريع لأنه أصلًا لم يلتفت للرأي المهني في هذا المجال".

"لا عجب من سياسة بن غفير، فهو انتخب أصلًا بفضل عنصريته ضد العرب، وما أن استلم المنصب حتى بدأ بتجميد كل الخطط الموجودة، بحث عن عيوب في الخطط وجمدها، ورغم أن هذه الخطط لم تكن جيدة بما فيه الكفاية، لكن وجودها أفضل من عدمها، واذا كانت ستمنع جريمة واحدة، أفضل من عدم ذلك" تقول فداء شحادة مركزة ائتلاف نساء ضد السلاح، وتضيف: "بالمجمل الحكومات في السنوات الأخيرة لم تفعل شيئًا يستحق الذكر في هذا المضمار، والحال من سيء إلى أسوأ، ليس فقط بملاحقة المجرمين، ولكن في السياسات الأخرى، في الميزانيات المخصصة للتربية والتعليم، وفي الأطر الثقافية وفي كل ما يتعلق بالاقتصاد، كل الظروف التي فرضت على المجتمع العربي، قادته على هذه الوضعية".
الشعور بين المواطنين العرب، بأن الشرطة باتت تكن العداء أكثر في السنوات الأخيرة، وفي العام الأخير بشكل خاص، وربما بعد السابع من أكتوبر أكثر فأكثر، يقول المحامي رضا جابر: "بن غفير يكمل هذه السياسة بشكلٍ فظ ويجاهر بهذا، وحوّل الشرطة كمؤسسة وأفراد ينظرون بشكل سافر للعرب كأعداء. هذه السياسة أصبحت علنية وشرعية وتتشرب في الشرطة بشكل عميق. بن غفير بنى حياته السياسية بعدائه لنا، ولذلك من مصلحته أن يبقى مجتمعنا تحت وطأة العنف والجريمة. هذا ليس فشلا له بل هذه هي سياسته، ولكن الأمر هو أن الجريمة ترتفع أيضا في المجتمع اليهودي، وهو يثبت أيضا ما قلناه دائما بأن الجريمة والعنف لا حدود لها، وستبدأ الشرطة حتمًا بالتحرك، لمنع تفشي الجريمة أكثر بين اليهود، ولكن في الحقيقة لا اعتقد أنها ستقوم بشيء تجاهنا".

عدم التعويل على الحكومة

يكمل د. وليد حداد: غالبية المهنيين والخبراء العرب في مجال مكافحة العنف والجريمة لم يعولوا على هذه الحكومة، ولكن كانت هناك بعض القيادات السياسية بالمجتمع العربي وبحسن نية حاولوا التعامل مع بن غفير ووزارته ولكن سرعان ما تجلى لهم الأمر بأن أجندة الوزير بعيدة تمامًا عن مصلحة مجتمعنا. الخطة الوحيدة التي بادرت إليها وزارة الأمن القومي بتوجيه الوزير هي محاربة الجريمة الزراعية والتي من منظور المتطرفين هي جريمة واضحة المعالم ضحاياها مزارعين يهود والمجرمون مواطنون عرب، لذلك كنا نقرأ على مدار العام بيانات للشرطة عن إلقاء القبض على سارقي مواشي وأبوكادو وبيض وغيره. رغم إدانتنا الشديدة لكل أنواع السرقات والاعتداء على الممتلكات، ولكن هذه القضية ليست ما يقلق المجتمع العربي. وهنا نتحول إلى النقطة الثانية، مع كل ما ذكر أعلاه وإهمال الشرطة لموضوع الجريمة بالمجتمع العربي ومحاولة حصر هذه الافة داخل المدن والقرى العربية والتشديد على عدم انتقالها إلى المدن اليهودية، شهدنا ارتفاع منذ بداية العام في حوادث العنف والتصفيات وترويع الناس حتى أنه في بعض الأشهر شعرنا وكأننا في حرب أهلية حين وصل عدد القتلى إلى ما يقارب ثلاثون ضحية بالشهر، ومع نهاية العام 2023 تجاوز عدد القتلى 240 من المواطنين العرب".

في الشهر الأول للحرب، كان هنالك انخفاض ملحوظ في عدد جرائم القتل، حتى أن بعض المعلقين في صفحات التواصل، قالوا ساخرين "بأن هذا يعود بأن أجهزة المخابرات منشغلة بالحرب، وهي بشكل عام كانت منشغلة بتشغيل وتحريك رؤساء منظمات الاجرام"، د. وليد حداد يعزي هذا الأمر (انخفاض عدد الجرائم في الأسابيع الأولى للحرب) إلى التواجد المكثف للشرطة: " مع بداية شهر أكتوبر واندلاع الحرب شهدنا بشكل فوري تراجع ملحوظ في منسوب الجريمة، لكن هذا الهبوط كان مؤقتا ولم يأت نتيجة خطة حكومية، إنما نتيجة تواجد الشرطة وأجهزة أمنية أخرى بشكل مكثف داخل المجتمع العربي ومحيطه، لأنه كانت هناك تقديرات من قبل أعضاء الحكومة وخصوصا الوزير بن غفير باحتمال حدوث مواجهات بين المواطنين العرب والدولة في أعقاب نشوب الحرب على غرار أحداث أيار 2021. لذلك في شهر أكتوبر قتلت الشرطة الإسرائيلية خمسة مواطنين عرب (اللد - الرملة - رهط - شفاعمرو) على خلفية عدم انصياعهم لأوامر اعتقال أو عدم التوقف عند حاجز شرطة أو محاولة هروب من مطاردة شرطية، وحتى بعد مرور أكثر من شهر لا أحد يعلم لماذا قتلوا هؤلاء المواطنون وهل فعلا كانت هناك ضرورة لإطلاق نار متعمد واسئلة كثيرة بدون إجابات، لكن الواضح ان كانت هناك سياسة موجهة لردع العرب وتخويفهم. أكثر من ذلك, فمع اندلاع الحرب اختفت ظواهر سلبية من مجتمعنا كنّا نتمنى التغلب عليها منذ سنوات مثل المتسولين على مفارق الطرق وانخفاض كبير في السرقات والاعتداء على الممتلكات وغيرها، طبعا هذا ناتج عن تواجد أمني كبير حتى في الأماكن الوعرة والغابات المجاورة للقرى والمدن العربية. بالإضافة إلى أننا نعاني من ظاهرة عسكرة الشرطة (over policing)، هذا الوضع أدى إلى انكفاء أعضاء عصابات الاجرام نتيجة الخوف وكما ذكرت سابقا بدون خطة حكومية شاملة لمكافحة الجريمة".

12% فقط من الجرائم تم حلها!

"رغم حقيقة أن سياسات بن غفير ساهمت بتفاقم المشهد بما يتعلق بالجريمة ولكن الحقيقة أن المشكلة أعمق من ذلك" تقول فداء شحادة: "اذا أراد شخص ما الاقدام على جريمة قتل، ما الرادع الأساسي له؟ انفاذ القانون، الاعتقال. واذا رأى أن احتمال اعتقاله ضئيل جدًا، ما الذي سيمنعه من الاقدام على جريمته وتكرارها حتى؟ لا شيء، هذا العام نسبة حل جرائم القتل كانت 12%، وتشمل هذه الـ12% جريمة مقتل السيدة براءة مصاروة وطفليها في الطيبة التي سلم زوجها القاتل نفسه للشرطة فورًا، وجرائم أخرى شبيهة، بمعنى أن الشرطة لم تبذل جهدًا استثنائيا في هذه القضايا، وأن الحديث يدور عن جرائم تنبع من مشاكل اجتماعية، مؤسفة ونحن كمجتمع نتحمل جزء من المسؤولية فيها، ولكن الذي يؤرقنا بالأساس هو أكبر من ذلك، هو الاجرام المنظم، معظم الجرائم تحصل بسبب الاجرام المنظم، والذي لا يمكن أن يعالجه غير الشرطة والدولة بمؤسساتها، ونسبة حل الجرائم المنخفضة هذه، مستمرة منذ سنوات، بمعنى أن الأمر لم يبدأ الآن، ومثال بسيط، تخيل أن شارعًا فيه بعض الحفر، لا يتم تصليحه عامًا بعد عام، ستتحول الأضرار التي يسببها إلى أكبر وأعظم بكثير، وهذا ما يحصل في مجتمعنا مع الاجرام المنظم".

"أما السبب الثاني لتفشي الجريمة، بجانب غياب الرادع، فهو انتشار السلاح، وللسلاح مصدرين، الأول تهريب، من مناطق مختلفة خارج حدود اسرائيل، والثاني سرقة وتهريب وربما شراء من الجيش أو أطراف في الجيش، وتم الكشف عن قضايا عديدة في هذا السياق، ولا تفعل الدولة أي شيء، بل تقوم بعكس ذلك، توزع الأسلحة مؤخرًا بشكل عشوائي، على المواطنين اليهود، ولكن هذا يعني توزيع الأسلحة بالحيز العام، ومع خطورة الأمر نفسه، هنالك خطورة أخرى وهي وصول هذه الأسلحة إلى عالم الاجرام".

وترى شحادة أن الجرائم ستسترفع في العام الجديد بشكل كبير "أولًا لا شيء يقول أن الجرائم ستنخفض، لأن المعادلة آخذة بالارتفاع، والآن هنالك أسباب أخرى، مثل أن الناس توجهوا إلى السوق السوداء بشكل أكبر خلال الحرب، المجتمع العربي أصلًا فقير، وهنالك عائلات عديدة تصنف كعائلات بوضعية معقدة، لا تتعامل مع البنوك وكل عملها عبارة عن تنظيف شيكات ومدخولات أولًا بأول، وفجأة توقف العمل، وحتى من يتعامل مع البنوك، وجد نفسه بدون مدخولات كافية. وأنا لا أبالغ، فالوضع سيء لدرجة أنه من الأسبوع الأول بالحرب هنالك عائلات بدأت تطلب طرودًا غذائية، ناهيك عن حالات الطرد من العمل بسبب منشورات أو مواقف، واذا كان الاعلام عن تحدث عن طرد طبيب أو ممرضة، فهنالك العشرات من العمال البسطاء، والعاملات بشكل خاص، الذين طردوا من أماكن عملهم ووجدوا أنفسهم دون مصدر رزق، وكل هذا يقود أبناء هذه العائلات إلى مكان واحد وواضح، وهو عالم الاجرام".

2024؟ أسوأ .. 

وهذا ما يؤكده د. حداد أيضًا: " يمكن أن تشهد السنة القادمة 2024 تصاعدا يفوق حصيلة العام الجاري. بعد مرور أكثر من شهر على الحرب بدأنا نلاحظ ارتفاع متجدد في وتيرة الجريمة بالمجتمع العربي وهذا يثبت بأن الهبوط الذي حصل في الشهر الأول من الحرب جاء نتيجة تواجد الأجهزة الأمنية وخشية المجرمين من القبض عليهم أو قتلهم من قبل الشرطة. لكن عند تغيير في انتشار وحدات الشرطة وقوات الأمن وتركيز تواجدها في محاور رئيسية خارج البلدات العربية، عاد المجرمون "لمزاولة عملهم" وفي الوقت نفسهِ الخلافات والصراعات لم تحل".
د. وليد حداد يرى بأن على القيادة العربية أن تجد طرقًا لرفع الضغط على الحكومة ويحملها بعض المسؤولية، ويقول: "يجب على القيادات العربية المحلية والقطرية أن تقوم بالضغط مستقبلًا من أجل بناء خطة حكومية طويلة الأمد، تشمل الردع بالإضافة إلى برامج تأهيل ورفاه. لا بدّ من التأكيد أنه لغاية اليوم السلطات المحلية العربية لا تولي الأمر أهمية قصوى لذلك مهم جدًا تخصيص ميزانيات بلدية محلية لمكافحة العنف والجريمة من خلال التوعية والتثقيف.

أما فداء شحادة فترى أن دور مؤسسات المجتمع المدني جدًا محدود مهما كان كبيرًا: "حاولنا تنظيم الأمهات الثكلى، ونجحنا بذلك، وأسسنا غرفة طوارئ تجمع كل الأطراف، لكن المشروع توقف بسبب الحرب، وسيعود، ولكن جميعنا نعرف أن الحل لدى الشرطة وفقط الشرطة، ولا نستطيع استبدال هذه الشرطة، التي لا تقوم بعملها كما يجب، بل تنشغل بأمور أخرى، وحتى حدة "سيف" التي أسسوها لمكافحة الجريمة، تتفاخر مؤخرًا أنها ساهمت في ملاحقة الأشخاص على مواقع التواصل الذين كتبوا منشورات تتعلق بالحرب. ساذج من ينكر أن كل ما يحصل هو عبارة عن محاولات لتهجيرنا بشكل طوعي، وهنالك أزواج شابة عديدة بدأت بالتفكير بهذا الأمر، خصوصًا مع تفشي العنصرية بعد السابع من أكتوبر، وهذا أخطر ما في الأمر".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]