بقلم : حنين أمارة

منذ زمن بعيد تحكمنا عادات وتقاليد ترسّخت فينا لتصبح نهج حياة مقنّن وموروث قد انتقل من جيلٍ الى جيلٍ ،ليصبح موروثًا اجتماعيا يتحدّى الظروف مهما كانت، ويحارب كل معارض جاء بفكرة للتغيير أو حتى من أجل التحسين في تلك العادات ، التي لا تمتّ أحيانا بدين سماوي أو بسنّة نبويّة وكلّ ما بالأمر هو ما دأب عليه المجتمع من سلوكيات موروثة غدت نهجًا وقانونا لا يمكن الاعتراض عليه .
ويسأل السائل أحيانا نفسه محتارًا بالإجابة لأنّ مجرّد التفكير في هذا السؤال هو خرقٌ لعادات المجتمع ورفض لموروثات ثمينةٍ لا يمكن التخلي عنها – وفق تفكير مجتمعنا – ويكمن هذا السؤال في "ماذا لو ألغينا هذه العادة من مجتمعنا ؟
إنّ عملية التفكير بذلك هي جرأة كبيرة والأصعب منها هو من يبدأ بهذا التغيير لأنّه سيوصم بوصمِ المخالف الشاذّ الذي يسعى لكسر الأنظمة التي اعتاد عليها مجتمعنا ، لو تفكّرنا في عادات المجتمع العربيّ ونظرنا نظرة ثاقبة الى لبّ مشاكلنا لاستنبطنا واستنتجنا أنّ معظم أفراد المجتمع يقعون في دائرة كثيري الشكوى من هذه العادات لما تثقله على كاهل أفراد المجتمع من واجبات والتزامات ،لا تتلاءم مع ما وصل اليه العالم في عهدنا الحالي.
منذ زمن بعيد كانت القرية صغيرة والنّاس بسطاء يعتاشون من زراعة الأرض وفلاحتها ، يتلاقون دائما بالبسمة الصباحيّة ويتبادلون خيرات مزروعاتهم فيهتمون بمشاركة جيرانهم وأقربائهم بالفرح والترح .
ما أجملها من عادات سُطّرت في سجلّ الذكريات لتمسي أطروحة جميلة نتغنّى بها في تعابيرنا " كان... وكان..." ولكنّها مع الزمن تغيّرت واختلفت ملامحها وتطورت حتّى ارتدت زيًّا آخر جديد يختلف اختلافا كبيرا عمّا كان منذ زمن .. قالب ولباس آخر بطرازٍ حديث أصبح أصعب بكثير فقد استبدلت البساطة التي كانت في ذلك الزمان إلى أمر بُطّن بقشرةٍ سلسة لكنّ لبّه صعبٌ ، صلبٌ ومعقّد وهو التكليف القسريّ .
فما يظهر للبعض هو مخالف لباطنهم ، قديما كان النّاس يفرحون ويقدّرون كل ما قدِّم من الآخرين ولكنّ مجتمعنا اليوم يرفض ذلك رفضًا قاطعا فقد حافظ على هذه العادة ولكن ألبسها لباسا جديدًا يرغم من يمارسها على ارتدائه دون أيّ خيار آخر . والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا ومنها ما يمارس من عادات البذخ والإسراف في أفراحنا والتي خالفت معنى السعادة الحسيّة لتصبح ماديّة بحتة ، وبالرغم من الظروف الصعبة التي يمرّ بها مجتمعنا في الآونة الأخيرة وأثرها الاقتصادي والنفسيّ الأصعب على أبناء مجتمعنا ،فما زال البعض يرفضون الاعتراف بمراعاة الظروف الرّاهنة ويستمرون بالإسراف كأنّ ما يحدث هو ضرب من ضروب الخيال ،وهو في الأساس حقيقة نعيشها وقد أصبحت واقعًا مريرًا لا بدّ لنا كمجتمع أن نلائم واقعنا وعاداتنا للحاضر البسيط السلس فلا نسعى للتعسير على الآخرين بل نيسّر ولا نعسّر لنتشارك أفراحنا وأتراحنا دون تكلّف وحملٍ ثقيل ولكن للأسف بالرغم من النتائج الوخيمة التي يخلّفها التمسّك بعادات حُدّثت تحديثًا صعبًا، فما زال مجتمعنا يتشبّث بها كأنها المنقذ المخلّص غير واعٍ لمدى الدمار الهائل الذي سيكون في أعقابها .
إنّ عملية التغيير تبدأ لدى الفرد في العائلة المصغّرة فمن كانت لديه الحصانة والثقة الكافية بما يفعله ، بالتأكيد سيجد من يؤيّده ويقلّده ولكنّ ذلك يحتاج الى جرأة كبيرة ومغامرةٍ أكبر ووعي كاف لتداعيات مخالفة العادات ، فالمجتمع لا يرحم ويُصدر قراراتٍ وأحكام دون النّظر الكافي في تداعيات كلّ موضوعٍ وموضوعٍ .
تحدثُ الحوادث أحيانًا لتكونَ سببًا في تغيير نمطٍ معيّنٍ حيث كان فيروس الكورونا الذي اجتاحنا مؤخّرًا ابتلاء كبير وعظيم جاء ليكسر شوكة البشر ويعلّمهم درسًا لن ينسوه ما حيوا فكانت فيها المنحة والمحنة في آنٍ واحد وغيرها من الابتلاءات التي عمّت عالمنا بعد ذلك من حروب وتفشي ظاهرة العنف ....
دعونا نفكّر بشكل إيجابي لنعتبر كلّ هذه الأحداث فرصة لتغيير عادات مقيتة في مجتمعنا لنستبدلها بأمور أفضل ذات فائدة للمجتمع، وليس عبئا عليه ، فلا بأس بالتمسّك بعاداتنا الجميلة وعدم المغالاة والمبالغة فيها .
أين نحن من تلك الاجتماعيات والمجاملات التي تعتبر لبّ نظامنا المجتمعي حيث نجدها ذات جذور راسخة قوية لا تميل، وفي ذات الأوان نلقاها مجرّدة من تلك الإيجابيات التي كنا نفتخر بها يومًا ما من تكافلٍ حقيقي ودعم نفسي مجتمعي، فالأنانية طاغيةٌ والمادّية مستفحلة تأبى أن يدخل في تكوينها إحساس بالغير .
يختلف المجتمع الغربي عنا كثيرًا فنجده يلقى الاستحسان لدى الكثيرين في مجتمعنا وأحيانا يُعتبر كنموذج مثالي نصبو اليه في بعض الأمور ،وهذا ما يدور في أحاديث المعظم من النّاس وكثيرا ما نسمع عن الاستقلالية في تخطيط الحياة عندهم ، وعن تحقيق الذات بما يرضيها ، يتحدثون عن أسلوب حياة مغاير تماما لما تمليه عاداتنا في مجتمعنا المصغّر ولكن عند الوصول الى أداء السلوك وتنفيذه لا يستطيع الأفراد التخلي عمّا تمليه العادات الموروثة فيصعب عليهم اتخاذ مبدأ البساطة بل ينطلقون في مركب المجتمع الذي يسير في نفس الدرب .
ولا بدّ من كلمة حقّ تقال في هذا الباب أنّ عاداتنا تحوي الكثير من الجوانب الإيجابية التي بإمكاننا الارتقاء بها بمجتمعنا وبالمقابل هناك ما هو سلبي يكبّل مجتمعنا بالأغلال رافضا له أي تطوّر أو تقدّم يذكر وتحضرني حكمة اختم بها ( لا يمكنكَ وضعُ رجلك في نفسِ ماء النّهر مرتين فانّ الماء يتغير كما أنت تتغيّر ) . 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]