بين الهدم والرماد: النقب يحترق ومجتمعنا ينهار

في قلب النقب تجري أحداث لا تُحسد عليها: هدم بيوت يوميًا، وضع اجتماعي مزرٍ، وإجرام متصاعد يُترجم بلغة السلاح. ما يجري ليس مجرد سلسلة أحداث منفصلة، بل صورة مركبة لمأزق اجتماعي وسياسي وأخلاقي نواجهه جميعًا، ويجب أن نواجهه بوضوح وجرأة.

الهدم: مجزرة يومية ضد كرامتنا
هدم البيوت ليس مجرد فقدان مأوى؛ هو اغتصاب لكرامة الإنسان ومصدر قلق دائم للعائلات والأطفال. عندما تُسحب الأرض من تحت أقدام الناس، لا يتبقى سوى ألم نفسي واجتماعي يولّد يأسًا يُسهِم في تفكك النسيج المجتمعي. الإجراءات التي تُنفّذ دون حلول بديلة وبدون حوار فعّال تُعمّق الإحساس بالظلم وتزيد من حدة الاستقطاب.

ومع غياب البدائل، نحن نزرع الفراغ ونحصد العنف. الأحياء التي تُهدم أو تُهمش تخلق بيئة خصبة للانحراف والجرائم. غياب فرص العمل، ضعف الخدمات الاجتماعية، وغياب مؤسسات تثقيفية وترفيهية للشباب تزيد من احتمالات الانزلاق إلى أفكار وسلوكيات مُدمّرة. عندما يصبح الحي مكانًا لا يمتلك أهله فيه أدنى مقومات العيش الكريم، يتحول اليأس إلى عنف يومي، والعنف بطبيعته لغة قصيرة الأمد ترد على ألم طويل الأمد.

أما إحراق المدارس فهو ليس إلا حرقًا للمستقبل. إحراق صفوف البساتين أو المرافق التعليمية المتعمد هو اعتداء مباشر على مستقبل أبنائنا. المدرسة ليست مجرد مبنى؛ هي المكان الذي تُغرس فيه القيم، وتُبنى فيه الطموحات. تخريب المدرسة يعني حرمان الأجيال القادمة من فرص التعلم، وتحويل المسار من بناء الذات وإنتاج المستقبل إلى دوّامة من الخسارة والانحراف. ولا شك أن هذا السلوك المنحرف يدمّر المجتمع من الداخل.

من المسؤول؟ الانقسام والسياسات المؤذية
من جانب آخر، يثور السؤال حول مَن فتح المجال لسياسات وتصرفات مثيرة للانقسام ضد المجتمع العربي. الخطاب الرسمي وقرارات وسياسات تدفع شعوبًا إلى الهاوية بدلًا من جسر الهوة بينها وبين الحكومة، وبالتالي لا تُبنى الانتماءات ولا تُقوّي الثقة المتبادلة.

عندما تمنح الدولة أو ممثلوها مساحة لتجربة خطاب أو سياسات تُمس بالكرامة، فإنها تعطّل الآليات الديمقراطية لحل الصراع وتزيد من الشرخ المجتمعي. علينا أن نفهم أن أي تدهور في الشرعية الاجتماعية يولّد فراغًا تستغله عناصر مُعرّضة للعنف أو التطرّف.

مسؤوليتنا مشتركة: لا لوم بلا حل
لا يكفي التعريض والإدانة فقط. المطلوب موقف مزدوج: نقد حقيقي للممارسات المؤذية، ومقترحات عملية وحقيقية. يجب أن تشمل الحلول وقف هدم البيوت بلا بدائل فورية، وتوفير سكن لائق للمتأثرين، وبرامج شاملة للتشغيل والتدريب المهني للشباب، واستثمار في البنية التحتية كالمدارس والمراكز الشبابية والملاعب والخدمات الصحية.

إضافةً إلى ذلك، يجب فتح قنوات حوار جادة بين ممثلي المجتمع والسلطات المركزية لمعالجة الملفات الجوهرية دون لغة إقصاء، ومحاسبة كل من ارتكب جرائم بحق الممتلكات العامة والخاصة، مع تقديم بدائل تربوية وقانونية تردع ولا تُقوّض.

الخاتمة: الاعتراف قبل فوات الأوان
علينا أن نعترف أن الفشل في معالجة الأسباب العميقة يولّد نتائج عنيفة ومؤلمة للجميع. اليوم أمامنا خيار واضح: إما الاستمرار في دورة من الهدم والانتقام، أو تبنّي مسار إصلاحي شامل يُعيد بناء الثقة ويمنح المجتمع أدواته للنهضة.

التصدي للفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يبدأ من داخلنا، من مؤسساتنا، من قياداتنا، ومن كل فرد يشعر بالمسؤولية. دعوتنا اليوم ليست لتأجيج الشحنات، بل لطلب حقيقي للعمل: حماية السكان، حماية المدارس، بناء بدائل، ومساءلة كل من يساهم في تفكيك نسيجنا الاجتماعي. لنكن جزءًا من الحل قبل أن يتحول ما بقي من حياتنا إلى رماد لا يعيد شيئًا من الماضي.

بقلم: سالم الأعسم

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]