تحلّ هذه الأيام الذكرى الخامسة والعشرون لهبّة القدس والأقصى، التي اندلعت في الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 2000، لتفتح فصلًا جديدًا في الوعي السياسي والهوية الوطنية للفلسطينيين في الداخل.

الشرارة الأولى

بدأت الأحداث بعد زيارة مثيرة للجدل إلى المسجد الأقصى في أواخر أيلول من ذلك العام، الأمر الذي أثار موجة من الغضب والاحتجاجات. خلال أيام قليلة، امتدّت المظاهرات إلى بلدات وقرى عربية عديدة في الجليل والمثلث والنقب، حيث خرجت الجماهير تعبيرًا عن رفضها للسياسات القائمة، ووقوفها دفاعًا عن كرامتها وهويتها.

سقوط الضحايا وصمت الدولة

خلال عشرة أيام فقط، قُتل 13 شابًا من أبناء الداخل وجُرح المئات، فيما شهدت الساحة اعتقالات واسعة ومواجهات متوترة. هذه الخسائر تركت جرحًا عميقًا في المجتمع العربي، ورسخت شعورًا عامًا بالخذلان، خاصة في ظل غياب المحاسبة وعدم تطبيق توصيات لجنة أور التي شُكّلت للتحقيق في تلك الأحداث.

أثر الهبّة على الوعي السياسي

مثّلت هبّة القدس والأقصى لحظة فارقة في تاريخ المجتمع العربي في الداخل. فقد أعادت التأكيد على أن الفلسطينيين في هذه البلاد ليسوا مجرد أقلية تبحث عن حقوق مدنية، بل هم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني بهويته الوطنية وارتباطه بقضاياه الكبرى.

كما شكّلت الهبّة نقطة تحوّل في العلاقة مع الدولة، إذ تراجعت أوهام الاندماج الكامل، وتزايد الشعور بضرورة تنظيم العمل السياسي والاجتماعي على أسس جماعية أكثر صلابة. وقد انعكس ذلك في السنوات التالية على صعود الأحزاب والحركات السياسية، وتوسّع العمل الأهلي والحقوقي، وتكريس خطاب المساواة والاعتراف بالحقوق القومية.

البعد الاجتماعي والذاكرة الجمعية

لم تكن الهبّة حدثًا سياسيًا فحسب، بل كانت أيضًا لحظة تضامن اجتماعي نادرة. فقد توحّدت مختلف شرائح المجتمع العربي، من الشباب إلى القيادات الدينية والسياسية، حول مطلب الكرامة والاعتراف. وبقيت صور التشييع الجماعي والاحتجاجات الشعبية محفورة في ذاكرة الأجيال، تنتقل من الآباء إلى الأبناء كجزء من سردية جماعية لا يمكن تجاوزها.

بعد 25 عامًا: أسئلة الحاضر والمستقبل

اليوم، وبعد ربع قرن على تلك الأيام الدامية، ما زالت الأسئلة قائمة: ماذا تغيّر منذ هبّة القدس والأقصى؟ وهل استطاع المجتمع العربي أن يحوّل تلك التضحيات إلى مكاسب سياسية حقيقية؟

من جهة، ما زال الغضب قائمًا من غياب العدالة بحق من قُتلوا، ومن استمرار السياسات التي تميّز ضد المواطنين العرب. ومن جهة أخرى، رسّخت الهبّة قناعة بضرورة التمسّك بالهوية، وتعزيز التنظيم الذاتي للمجتمع العربي في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

إن الذكرى الخامسة والعشرين لهبّة القدس والأقصى ليست مجرد وقفة لاستعادة الماضي، بل هي أيضًا دعوة للتأمل في الحاضر والتفكير في المستقبل. فهي تذكّر بأن الطريق نحو العدالة والمساواة ما زال طويلًا، لكنها تؤكد أيضًا أن التضامن والوحدة كانا – وما زالا – السلاح الأقوى بيد هذا المجتمع.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]