في أجواء مفعمة بعبق التاريخ، وبحضور حاشد من الضيوف والأكاديميين والفنانين، والجمهور التواق للمعرفة، تحولت قاعة بلدية عرابة يوم اول امس السبت (6.12.2025)، الى منصة لاستحضار إحدى أهم صفحات تاريخنا في القرن الثامن عشر. تحت عنوان "ظاهر العمر: إرث، ثقافة، وهوية"، انطلقت فعاليات اليوم الدراسي والمعرض الفني لإحياء الذكرى الـ 250 لرحيل القائد التاريخي للجليل، الشيخ ظاهر العمر الزيداني.
هذا الحدث، الذي نظمته بلدية عرابة بالتعاون مع "جمعية السباط للحفاظ على الثقافة والتراث" و"جمعية التاج للصحة والتراث"، لم يكن مجرد سرد لأحداث مضت، بل كان محاولة جادة لنفض الغبار عن ذاكرة جماعية، واستنطاق التاريخ لتقديم إجابات ملحة على تحديات الواقع الراهن، لا سيما تلك التي تواجه الشباب اليوم، كالعنف وتآكل الهوية.
افتتحت اليوم الدراسي مقبولة نصار مديرة قسم الثقافة، بتوجه واضح، أكده المتحدثون وهو أن الهدف يتجاوز "النوستالجيا" والحنين إلى الماضي. في كلمته الافتتاحية، شدد رئيس بلدية عرابة، د. أحمد نصار، على أن "الشعوب الحية هي وحدها التي تستحضر إرثها لصنع مستقبلها". ورسم نصار صورة لظاهر العمر كقائد موحّد للعشائر وبانٍ للاقتصاد ومرسٍ للأمن، مؤكداً أن شباب اليوم يجب ان يعرفوا انهم "استمرارية لهذا القائد"، وأن الحاجة ماسة لتوظيف هذه الذاكرة المقاومة للاستسلام لواقع الجريمة والفوضى الحالي.
واتفقت معه د. هديل كيال، رئيسة لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، التي وصفت ظاهر العمر بأنه "صانع حضارة" وليس مجرد حاكم محلي. واستعرضت في سرديتها للدروس المستلهمة من سيرته قيم الصمود، الشجاعة في صنع القرار، والرؤية الاستراتيجية التي مكنته من بناء القلاع والأساطيل وإقامة التحالفات بمرونة دبلوماسية مذهلة حافظت على استقلاليته النسبية في بحر متلاطم من القوى الكبرى.
وفي كلمته أكد الباحث خالد عوض مدير جمعية السباط، على دور ظاهر العمر في قيادة فلسطين نحو الأمن والاستقرار والنهضة الاقتصادية والاجتماعية في القرن الثامن عشر و أشار إلى سياسته التنموية والاجتماعية التي حولت الجليل من التهميش إلى مركز حضاري مزدهر، مع الحفاظ على التعايش الديني.
من خلال ستة مداخلات قدمت ضمن محورين، أخذ الباحثون الحضور في رحلة معمقة عبر الزمن لاستكشاف ملامح ما وُصف بـ "العصر الذهبي" للجليل.
بروفيسور محمود يزبك: "العصر الذهبي" للمنطقة من "المجتمع الزراعي البحت" إلى "مجتمع حضاري مدني"
ركز البروفيسور محمود يزبك في مداخلته على الأسس الاقتصادية للمشروع النهضوي لظاهر العمر في الجليل. واستهل حديثه بالثناء على ترجمة كتاب عن ظاهر العمر إلى العبرية، مؤكداً أهميتها في دحض رواية بـ "أرض بلا شعب".
وفي جوهر تحليله، أوضح يزبك كيف أدرك ظاهر العمر بعمق الواقع الاقتصادي للقرن الثامن عشر، فاستغل الطلب العالمي المتزايد على القطن ("الذهب الأبيض") في ذروة الثورة الصناعية الأوروبية، واعتمد على احتكاره وتصديره. وأكد أن الأرباح الهائلة المتأتية من هذا النشاط لم تُهدر، بل استُثمرت بذكاء في إحداث تحول جذري في بنية المجتمع الجليلي، ناقلاً إياه من طور "المجتمع الزراعي البحت" إلى "مجتمع حضاري مدني" مزدهر.
واستعرض يزبك أمثلة بارزة على هذه التنمية العمرانية التي مولها هذا الرخاء الاقتصادي، شملت:
طبريا: جلب يهودًا من إزمير، بنى فيها كنيسًا وحمامًا وحيًا يهوديًا، وأقام أسوارًا حولها.
عكا: أعاد بناءها باستخدام حجارة من آثارها، وجعلها مركزًا لحكمه.
الناصرة: شجع على استيطانها بتخفيض الضرائب، وجذب مسيحيين من لبنان، مما أدى إلى بناء عدة كنائس.
يافا: سيطر عليها وبنى أسوارًا حولها لتصدير القطن، لتكون منافسًا لمدن أخرى.
واختتم بالتأكيد على أن هذا الازدهار الاقتصادي والعمراني لم ينفصل عن قيم التسامح واحترام الآخر التي جسدها ظاهر العمر في نهجه السياسي والاجتماعي.
بروفيسور مصطفى عباسي، طبريا العاصمة الاولى لظاهر العمر
سلط البروفيسور مصطفى عباسي الضوء على الدور المحوري لمدينة طبريا كعاصمة أولى لظاهر العمر، مستعرضاً نهضتها العمرانية وتحصينها، مما جعلها مركزاً إدارياً مزدهراً. وأشار إلى الأهمية الاقتصادية الاستراتيجية التي اكتسبتها المدينة بفضل سيطرة ظاهر العمر على "خان التجار" كشريان للقوافل.
وركز عباسي بشكل خاص على "نموذج طبريا" الفريد في التعايش والتسامح الديني خلال تلك الحقبة، مستدلاً باستجابة ظاهر العمر لدعوة الحاخام حاييم أبو العافية ودعمه لبناء المرافق الدينية والتجارية اليهودية، مما خلق فترة استثنائية من الوفرة والرخاء.
وتطرق إلى السياق السياسي المضطرب، بما في ذلك الصراع مع والي دمشق، والتحول الاستراتيجي بانتقال العاصمة إلى عكا عام 1745-1746، وهو ما أدى، إلى جانب زلزال عام 1759، إلى ركود طبريا لاحقاً. واختتم بالإشارة إلى نهاية "العصر الذهبي" للحكام المحليين بقدوم الجزار عام 1775، معرباً عن أسفه العميق للسياسات الإسرائيلية التي أدت بعد عام 1948 إلى هدم أسوار طبريا التاريخية وأجزاء من مدينتها القديمة، بما فيها الحي اليهودي، مما تسبب في ضياع جزء كبير من تاريخ المدينة التي كانت مختلطة وقائمة على قبول الاختلاف.
د. رافع ابو ريا: القلاع الظاهرية ودورها في تطوير القرية العربية في الجليل
في محاضرة قيمة، أخذ د. رافع أبو ريا الحضور في جولة ميدانية افتراضية عبر "الأماكن والمعالم التاريخية لظاهر العمر"، كاشفاً عن عظمة هذا الإرث والتحديات الجسيمة التي تهدده.
استعرض أبو ريا نموذج دير حنا، القرية المحصنة التي تحيط بها الأسوار وتضم مسجداً وكنيسة وقصراً (السرايا)، مشيراً إلى أن بناءها بأحجار صغيرة نسبياً يدل على سرعة الإنجاز في تلك الحقبة. وتوقف مطولاً عند قلعة دير حنا، التي بُنيت بالحجرين الأبيض والأحمر، وكانت الأضخم في البلاد، لكنها اليوم تفتقر للمتانة، مع وجود نقش مفقود في مسجدها لا يزال البحث عنه جارياً.
وامتدت الجولة لتشمل قلاعاً وقصوراً استراتيجية أخرى في الناصرة، كفر كنا، صفورية، شفاعمرو، عبلين، جدين، وغيرها، والتي شكلت شبكة دفاع وإمداد لحماية الجليل وعكا. ودق أبو ريا ناقوس الخطر إزاء تداخل هذه الآثار مع المباني السكنية الحديثة وتدهور حالتها، فضلاً عن التحديات المتمثلة في سرقة أجزاء منها، وغياب التوثيق الكافي، وتجاهل قيمتها الحضارية.
كما سلط الضوء على مقام أبو عتبة خارج أسوار عكا، والذي يُعتقد أن ضريحه الأكبر يعود لظاهر العمر نفسه، كرمز أُقيم له بعد وفاته الدرامية.
ابن عرابة الباحث قاسم بدارنة: بين الغموض والإنجاز.. سيرة قائد استثنائي وعلاقته بعرابة
وفي سياق متصل، قدم الباحث الأستاذ قاسم بدارنة قراءة معمقة في سيرة وحكم ظاهر العمر، متناولاً "الغموض" الذي يلف بعض جوانب شخصيته، مثل تباين الروايات حول تاريخ ومكان ميلاده وحتى تصويره في اللوحات الفنية.
وركز بدارنة على "إنجازات" هذا القائد، وتطرق إلى نهايتة المأساوية، مستعرضاً تفاصيل اغتياله عام 1775 على يد قائده احمد الدنكزلي عند هجوم الاسطول العثماني بقيادة حسن باشا الجزائرلي وجيش احمد باشا الجزار، في ظل خيانة بعض المقربين منه، ومسجلاً موقفه البطولي في الإصرار على حماية زوجته حتى لحظاته الأخيرة. كما سلط الضوء على العلاقة التاريخية العميقة التي ربطت ظاهر العمر بمدينة عرابة، كجزء أصيل من مشروعه النهضوي.
الباحث علي حبيب الله: المخيال الشعبي كشاهد على سيرة ظاهر العمر
تناول الباحث علي حبيب الله شخصية ظاهر العمر من منظور مغاير، مركزاً على حضوره الطاغي في "المخيال الاجتماعي" والذاكرة الشعبية، ومؤكداً على أهمية هذا البعد الوجداني الذي يتجاوز جفاف المعلومة التاريخية الرسمية.
وبشكل مشوق اتحفنا بتحليل أبيات العتابا والأغاني الشعبية التي تروي قصصًا عن ظاهر العمر وأبنائه (مثل عثمان)، وعن مقتله، وعن مواقف النساء في حياته. ومنها "العتابا الحراثية" وهي نوع من العتابا يعبر عن وجع الناس وحياتهم اليومية، وكيف أنها حملت دلالات عميقة عن شخصية ظاهر العمر.
واستطرد في تحليل الارتباط الوثيق بين أهل جبل عامل وظاهر العمر، حيث اجتمعوا عليه ضد الجزار، وكيف أن الأدبيات العاملية تخلد ذكراه. وسلط الضوء في مداخلته على الحضور المثير للمرأة في حياة ظاهر العمر ودورها المحوري في أحداث مفصلية بحياته، من النزاعات إلى النجاة والحروب.
بالنظر الى الإسقاطات التاريخية: ظاهر العمر لم يؤسس لدولة فلسطينية بالمعنى الحديث، لكن إرثه يعكس صراعًا على الأرض والهوية.
د. منى ظاهر لا تقتلوه مرتين
واسمعت الشاعرة والفنانة التشكيلية، د. منى ظاهر المنحدرة من سلالة ظاهر العمر، صرخة الم وبناء على بحثها في اسباب غياب ظاهر العمر عن الحيز الثقافي والمدني، "لقد قُتل ظاهر العمر مرة في التاريخ، فلا تقتلوه مرة أخرى اليوم بتهميشكم وإهمالكم لإرثه.. لا نريد أن يقتل ظاهر العمر مرتين".
هذه الصرخة عززتها نتائج استبيان عرضته كل من عناية نجار مديرة وحدة الشباب وميناس حلو مديرة وحدة الشبية في بلدية عرابة، كشف عن فجوة معرفية كبيرة لدى الشباب حول شخصية ظاهر العمر، الاستبيان الذي شمل 299 شابًا وشابة، أظهر أن 67% منهم لا يعرفون الكثير عن ظاهر العمر، وهي نسبة صادمة نظرًا لارتباط عرابة التاريخي به. لكن الجانب المضيئ هو ان الذاكرة الشعبية موجودة وقوية رغم كل شيئ، والغالبية ترغب في التعرف على الشخصية.
واختتم اليوم علاء نصار مدير قسم التربية والتعليم، في بلدية عرابة بالتأكيد على توصيات هذا اليوم، ومن ضمنها
تعزيز الفعاليات الثقافية والفنية: لاستثمار الاهتمام بالشخصية التاريخية وتعزيز الانتماء والهوية.
تعميق التكامل بين التعليم المنهجي واللامنهجي: لربط المعرفة النظرية بالتجربة الميدانية.
تعزيز الذاكرة الشعبية والرواية المحلية: كمصدر مهم للثقافة وتشكيل الهوية.
ارث وريشة، معرض فني وتكريم
وعلى هامش اليوم الدراسي، أقيم معرض فني مميز، أشرفت عليه قيمة المعرض الفنانة نجية ياسين، جسد روح تلك الحقبة. واختتم اليوم بتكريم الفنانين المشاركين: مبدأ ياسين، كفاح حماد، عماد زيدان، جهينة حبيبي، عبير زبيدات، زاهر نصار، سحر بدارنة، ميسر نصار، وحسن طوافرة.
اختتم اليوم الدراسي بالدعوة إلى العمل الجماعي والشراكة بين المؤسسات التعليمية والمجتمع لتحويل التاريخ إلى طاقة ملهمة تساهم في بناء إنسان واعٍ لجذوره، فخور بإرثه، وقادر على صياغة مستقبل أفضل.
تلى اليوم الدراسي جولة في مركز البلد القديم ومن ضمنها بضيافة كريمة من عائلة الاخ جادالله نصار والعم ابو السامر محمود نصار في متحف الكهف وزيارة لمقر ظاهر العمر.
[email protected]
أضف تعليق