هل أعجبني فيلم "صالون هُدى"؟ كلا.. لماذا؟
هل أعجبني فيلم "صالون هُدى"؟ نعم..لماذا؟
بقلم: راضي شحادة*

كما جاء في مقدّمة الفيلم:
"صالون هُدى": "إنتاج: مؤسَّسة الدَّوحة للأفلام، والصّندوق الهولندي، بالتّعاون مع "فلسطين فيلم". المكان: بيت لحم تحت الاحتلال. الدّخول والخروج بإذن المخابرات الإسرائيلية".
****
سأجتهد بما أوتيتُ من أدواتي الوَعيِيَّة والفنّيَّة بالإدلاء بِدلَوي "النَّقديّ" وليس "الانتِقَاديّ" لفيلم "صالون هُدى" لمؤلّفه ومُخرجه الفسطيني "هاني أبو أسعد".
من الخطورة بمكان أن نقوم بتقييم عمل كهذا بـِجَرَّة قَلَم، لأنّه يتطرّق الى موضوع شائك، ما يحثُّنا على تقييمه بعيداً عن فَلسفة "يا طُخُّه يا إكْسِرْ مُخُّهْ" او "أنا فِشّْ عندي يَمَّا ارْحَمِيني". وليس كما قال بطل الفيلم "حَسَن": "مِشْ حَلّ الغَلَطْ بالغَلَطْ"، ولذلك، فلا بدّ من الاعتراف بمَدَى خُطورة الحكم بالإعدام على الأعمال الفنّيَّة وعلى صانعيها بقوانين فِكْرِنا المـُسبَق، وليس على تركيبتها المضمونيّة والشَّكليّة الكامنة فيها، وخاصّة إذا كانت هذه الأعمال مستوحاة من أحداث آكتُوآليّة معقّدة ومركّبة وحسّاسة تخصّ قضيّتنا الفسطينيّة، أكانت سياسيّة ووطنيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة.
فكرة عامّة ضروريّة قبل الخوض بفيلم "صالون هُدى":-
إنّ ردود الفعل على فيلم "صالون هُدى" تنطبق على أكثر من ردّ فعل واكبناه من الرأي العام على أعمال فنّية أخرى، أكانت في السّينما او المسرح او الغناء او الرّسم، أو سائر أنواع التعبير الإبداعيّة، حيث أنّها جُوبهت بالرَّفض او الـمَنع او التَّهديد من قبل "الـمُنتقِدِين" لأصحاب هذه الأعمل، وإباحة دمهم بالتَّصريح عَلَناً بأنّهم يستحقّون القتل بدون محاكمة.
ما يَسهُل على الـمُنتقِد يَصعبُ على النّاقد، فالـمُنتقِد يُفضّل الانتقاد الحاسم برأيه وبمعتَقَده، وبخاصّة إذا وَجَد نفسَه مَدعوماً بوُجهَة نظر الرأي العام، بينما يحتاج النّاقد الى أدوات علميّة وتعليليّة وتفصيليّة يشرح فيها ويبرّر موقفه، غير منطلق من نَوازعِه العاطفيّة التي يكون فيها حذِراً من الاستنتاجات التَّعميميّة.
يَسهُل على الـمُنتقِد توزيع الشَّهادات على مُنتَقَدِه، فهذا عميل وذاك وطني وهذا تَسَلُّقي وذاك بطل أُسطوري، وهذا مشكوك بأمره، وذاك يتحلّى بصفة المعصومين عن الخطأ وذاك كافر...الخ. غالباً ما نعزو موقف الـمُنتقِد الى حُكْمِه على الأمور من منطلق فِكْرِه المـُسبّق تجاه الموضوع الـمَطروح أمامه أو المعروض على شكل إبداع فنّي، فقد يَحكُم أحدُهم على الفنّ بشكل عام بأنّه مُحرَّم، وبالتَّالي فأسهل عليه أن يحكم على عمل فنّي ما، ليس لأنّه شاهده وحَكَم عليه، بل لمجرّد سماعه بعض ردود الرأي العام بأنّ هذا العمل مُخلّ بالدِّين وبالعادات وبالتَّقاليد وبالوطن، وبالتاَّلي فَمِنَ السَّهل أن يتلاقى موقفه المـُتسرِّع والمـُجحِف مع موقف مُتلقٍّ أو فنان مُبدع ومُنتقِد، لأنّ انتقادَه يجعله في منطقة الأمان، لأنّه يتماشى مع الرأي السَّائد والعام، والذي يخلو من عمق التَّحليل، ما قد يَرقى بذوق ووعي الـمُتَلقّي، لكي يقوده الى وَضْع أصبعِه على الغثّ والسَّمين، على ما هو منطقي وما هو غير منطقي، على توضيح ما هو خطأ وما هو صواب، وبخاصّة أنّ الأعمال الإبداعيّة والفنّيّة بشكل عام تكون تركيبتها مُعقَّدة ومركَّبة واستيحائيَّة وإيحائيَّة، وتختلف كلّيّاً عن الخطاب السّياسي او الاجتماعي المباشر، وهي أيضا ليست نُسخة طبق الأصل عن الواقع، بل هي قد تكون مُستوحاة منه ومختلفة عنه في شكلها وطريقة سردها.
إنّ حكمنا على عمل فنّي ما بالإعدام، حتى ولو كنّا نظنّ أنّه يشكّل خطراً على قضيّتنا الفلسطينيّة سياسيّاً ووطنيّاً وأخلاقيّاً، يعني أنّنا فَوَّتنا فرصة التَّقدّم خطوة أخرى نحو تفادي ما نظنّ أنّه ارتُكب من جريمة أو خطأ مَتَعَمَّد او عن غير وعي في هذا العمل. أو ربّما هنالك أمور فاتتنا فيما هو إيجابيّ او سلبيّ فيه قد تساعدنا عمليّة تقييمه من أجل التَّقدُّم نحو الأفضل في أعمالنا القادمة.
علينا مشاهدة هذه الأعمال التي تتطرّق الى قضايانا الوطنية والسّياسية والاجتماعيّة، أكانت مصنوعة من قبل فنّانينا الفلسطينيّين او من قبل غيرنا. مشاهدة هذه الأعمال ونَقْدُها لا يعني أنّك تساعد في التّرويج لها بحجّة أنّها سيئة أو ما قد يوحي بأنّ مجرّد اهتمامنا بها يساهم في ترويجها. هذه الأعمال أصبحت إمكانيّات ترويجها عبر الميديا والمهرجانات مسألة خارجة عن سلطتنا، وأنّ إهمالنا لها والادّعاء بأنّها لا تستحقّ الـمُشاهدة، فكأنّما نحن نعلن أنّ عدم وجود موقف نقدي منها يساوي عدم وجودنا على السّاحة وكأنّنا عاجزون عن مواجهتها فكريّاً ونَقديّاً وليس بالاكتفاء برفضها "انتقاديّاً"، وبالتّالي فالأفضل أن نعلن موقفنا النَّقدي والمبدئي منها، وألّا نكتفي بــ"الانتقاد"، لكي نساهم في إيصال صوتنا بما يخصّ قضايانا العادلة بجميع مستوياتها. إنّ اتّباع فلسفة: "لا من شاف ولا من دري" كأن نقول: "يصفى الميدان لأبو عبيدان".
نحن نخاف على هوّيتنا وقضيّتنا أن تتشوَّه وأن يُقلَّل من قيمتِها في مرحلة تمرّ هذه القضيّة في مرحلة نشعر أنّها مُهَدَّدة بالخطر، وبالتّالي فنحن، أفراداً أو جماعات، نظنّ أنّ وجودنا في هذه المرحلة في وضع الضّعيف الـمُحاصر الـمُهدَّد صهيونيّاً وعالميّاً وتَدَيُّنيّاً، سيساهم في المزيد من الانزلاق والتَّدهور والخسارة والتَّشويه، ما قد يجعل مصلحة قضيّتنا تصبّ في مصلحة العدوّ المحتل.
الشّعوب التي وصلت الى مرحلة تحرّرها ولديها دولها المستقلّة ونظامها وجيشها وحدودها، وسبُل الدّفاع عنها مُتاحة، ليست بحاجة للدّفاع عن ضعفها عن طريق جَلد الذَّات او التَّشكيك في قدرتها على الجدال والجَدَل الحرّ بين مواطنيها، وحماية مواقفهم، مهما كانت هذه المواقف مُتناقضة، لا بل تستفيد من هذا الجَدَل حول كافَّة قضاياها المطروحة بدون الشُّعور بالنَّقص او بالوهن او بالانغلاق.
بشكل عام، نحن ننظر الى الأعمال الفنيّة الإبداعيّة التي تتطرّق بشكل مباشر الى مواضيع تخصّ قضيّتنا الفلسطينيّة الرّاهنة، نظرة الارتياب والحذَر والتَّشكّك والـمُحاسَبة خوفاً من أن يكون فيها ما يزيد من طين تعقيداتها بِلَّةً، في وقت تسير فيه الأمور نحو المزيد من التَّعقيد والغُموض، وأحياناً الإحباط، في زمن أصبحت فيه قضايانا العربيّة والفلسطينيّة مُختَرقَة أمنيّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ووطنيّاً..ومخابراتيّاً، ما يزيد كل ذلك من شعورنا بأنّنا محاصَرون، ولا نحتمل المزيد من جَلْد الذَّات، وزيادة الإحباط، فنُصاب بالشُّعور بأنّ المؤامرات تُحاك ضدَّنا من كل حدْب وصَوب، فنتَشبّث بما بقي لدينا من هُويّة ومروءة وكرامة وأمل وقوّة، ونتحصّن بها لكي نضمن وجودنا وهويّـَتنا، وخوفاً على مستقبل قضيّتنا من التَّشَوُّه والإبادة.
نحن محكومون بالمُتَطلّبّات الرَّاهنة التي تَخصّ قضّيَّتنا الفلسطينيّة:
عند متابعة الفيلم وأحداثة، وهي مشاهد وأحداث شائقة وجذَّابة ومثيرة، ودراميّتها مستفِزَّة للمُشاهد لكي يتابع التَّعلُّق بها الى النِّهاية، وخاصّة الـمُشاهد الذي يجد في أحداثها شيئاً يخصّه، وكجزء من ارتباطه بفكره الاجتماعي والسّياسي والوطني المـُسبّق، فما أن تنتهي اللعبة يعود الـمُشاهد الـمَعنّي بتحليل ما شاهده ذِهنيّاً، فيجد نفسَه مرتبكاً بين مَدى قُوّة علاقة المضمون والحبكة بالشّكل الجمالي والفنّي للفيلم، وبين مدى ثوريّة الفيلم او حياديّته، او فيما إذا كان يصبّ في صالح العدوّ.. عندها "تنتهي السَّكرة وتستفيق الفَكرة". صحيح أنّه مثير للتَّفكير، ولكنّه أيضا مثير للإرباك وعدم الوضوح بتوجّهه العام، وقد يميل في دبلوماسيّته الى إيمان مُنتجِيه بأنّه قد يُرضي العالـَم ويُرضي طموح مُنتجيه من أجل الوصول الى العالميّة.
أحيانا يكون ذلك منطلِقاً من أنّ توجُّه القائمين على الأعمال الفنّيّة نابع من تغليب الإنساني العام والتّعميمي، ما قد يكون على حساب القضايا التي تخصّ شعباً لا يزال يبحث عن تحرُّره واستقلاله عن طريق اللجوء الى المقاومة والنّضال الذي يميّز هذا المبدع عن باقي المبدعين الذين يستطيعون أن يلجؤوا الى تَرف الأمميّة والعالميّة بأريحيّة أكثر من المـُبدع الفلسطيني او العربي الذي يجد في قضاياها الخاصّة، ولو مرحليّاً، أولويّة تجعل مواقفه متطلّبة لشيء من الثّورية التي تعيقه عن الحياديّة والتّعميم، أيضاً ولو مرحليّاً.
إنّ وضوح الرُّؤية الثَّوريّة في العمل الإبداعي الفلسطيني المعروض في ظلّ ظروف احتلال مركّبّة ومعقَّدة، تكاد تصل أحياناً الى قمّة العَبثيّة. هل تُساعد المبدع على الوصول الى العالميّة في ظلّ تحكُّم وسائل الاعلام العالميّة بنوعيّة العمل المـُقدَّم من خلال وجهة النَّظر الـمُناهِضة لإسرائيل ولحلفائها الاستعماريّين، مع تأكيدنا بأنّ كلّ ذلك لا يعني عدم محاولة مبدعينا النِّضال من أجل اختراق هذه المعادلة الصَّعبة بما يصبّ في صالح قضيّتهم العادلة والمظلومة؟
هذا الأمر يتعلّق على وجه الخصوص بالأعمال الإبداعيّة التي تتطرَّق الى مواضيع آكتوآليّة ساخنة نعيشها في ظروف سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ضاغطة تميّزنا أكثر من غيرنا. فلو أنّ فيلم "صالون هُدى" كان فيه المزيد من الجرأة والثّوريّة بأن يُظهر شخصيّة المـُسبِّب لكلّ هذه المأساة وهو الاحتلال، حتى وإن أدّت هذه الجرأة الى احتمال أن تَمنع هذه القوى الـمُهيمنة على منصّات الميديا عرض هذا الفيلم، او إمكانيّة حصوله على جوائز، وهذا بحدّ ذاته سيكون أكثر وقعاً وقوّة من جعله فيلماً محارَباً وممنوعاً من قبل أصحاب هذه القضيّة وشعبها، ومن قبل مُتلَقِّيه من "الـمُتعصِّبين" لمصداقيّة وعدالة هذه القضيّة. والثّوريّة هنا ليست بمعنى الشِّعاراتيَّة والخطابيَّة المباشرة، بل هي في القدرة على الاتّزان في طرح الموضوع الذي يطرحه المـُبدع عن قضيّة وطنيّة تحرُّرية سياسيّة آكتوآلية بعينها، وبأقصى ما لديه من تجارب إبداعيّة في قدرته على تجيير العناصر افبداعيّة الدّاعمة لمضمونه ولشكله ولتوازنه. هذه معادلة صعبة جدّاً، وكم هو أصعب على المبدعين أن ينتهجوها لما فيها من مخاطر على مجهودهم الوطني والثّوري. منهم مَن يُبرِّر أُسلوب عرضه للقضيّة بطريقته الثّوريّة الخاصّة مدّعياً أنّ "الثَّوريَّة" هي حالة نسبيّة ومتعدّدة الأساليب والطّرق، وقد يكون التَّوجّه الإنساني العام هو الثَّوريّة بحدّ ذاتها. هو يستطيع أن يدَّعي أنّه يستطيع أن يصل الى ثوريّته عن طريق تغليب الحالة الإنسانيّة العامة، وهنا تكمن الصُّعوبة، لأنّه في حال قرّر اختيار موضوع يتعلّق بقضيّة ثوريّة مختلفة في جغرافيّتها ومكانها وزمانها عن باقي القضايا الإنسانيّة والأمميّة العامّة، فإنّ كون قضيّته خاصّة ومجبولة بقضايا سياسيّة ووطنيّة واجتماعيّة أيضاً خاصّة في ظروف احتلال ومرحلة تحرُّر وطني، فإنّ مهمّته ستصبح غاية في الصّعوبة، لأنّه، خلافاً لغيره من أصحاب القضايا غير المشابهة لقضيّته، يكون بحاجة الى معادلة التّوازن بين طرحه الإنساني العام، وطرحه للقضيّة التي يودّ الانطلاق بعمله من خلالها وعنها شكلاً ومضموناً، وخاصّة إذا كان الموضوع الإنسانيّ المطروق غير منفصل عن خصوصيّته السّياسيَّة والوطنيّة، وخاصّة أنّ الشعب صاحب هذه القضيّة معبّأ بفكرٍ مُسبق قبل أن يُعرَض عليه هذا العمل الفنيّ، الذي يتأمّل أن يكون داعماً للقضيّة وليس مختبئاً خلفها او مُربِكاً لعدالتها.
يعيش المبدع الذي يريد التَّعبير عن إبداعه في ظروف سياسيّة واجتماعيّة معروفة لدى المـُـتَلَقّي المحلّي، وهذه الظّروف ليست واضحة لدى المتلقي الذي يشاهد هذا الإبداع في العالم، يعيش نوعاً من الصراع بين حُبِّه لإيصال عمله الإبداعي لأكبر عدد من الـمُتلقّين في العالم بحيث يصبح عمله، إذا كان مصنوعاً بشكل حِرَفي راقٍ، بأن يحصل على جوائز عالميّة معنويّة شُهرَويّة ومادّية، وهذا حقُّه، وبين كونه يجد في قضيّته الوطنيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة مادّة دراميّة مُغرية تُساعده على ذلك، ولكنّها في الوقت ذاته فهي قضيّة حسّاسة جدا ومركّبة ومعقّدة وليس من السّهل حصْرها في عمل إبداعي غير مَدروس بحذْق وبِرَويَّة وبِحذَر، لأنّها قضيّة تعبّر عن واقع شعب تحت الاحتلال، ويسعى بكلّ ما يقدّم من تضحيات للحصول على تحرُّره وتقرير مصيره، ما يستدعي التَّفكير جيداً بأنّ هذا الأمر ليس موجوداً لدى الشُّعوب الأخرى التي يكون مواطنوها قد تخطّوا هذه المرحلة، ولا تَرضح ظروف حيواتهم لمثل هذا الوضع الاستثنائي الذي تتميَّز به القضيّة الفلسطينيّة.
الفنّان الـمُبدع الـمُنصهر بتفانٍ في حُبّه لمجال الإبداع، أكان ذلك بشكل عام وبضمنه المجال السِّينمائي، أكان مؤلفاً/مخرجاً، يميل الى الانجراف لدراميّة القصّة وأحداثها المـُلهمة التي تغريه شكلاً ومضموناً على سردها وصياغتها، وبشكل خاص سينمائيّاً وهو ما ينطبق على مثال الفيلم الذي نحن بصدده. يبقى الشّيطان مُعشِّشاً وكامناً في التّفاصيل. كيف تتمّ المعالجة، وما هي الأدوات التي يستعملها، وكم هو العمل مترابط حبكةً وشكلاً وسرداً ومَنطقيّاً؟ هل جماليَّة العَمل، وحِرَفيّة صانعيه، وجاذبيّة أحداثه ومَشَاهِدِه وتقنّياته، كافية لكي نستنتج من خلالها أنّ القصّة الـمَسْرودَة عُولجت بشكل متكامل لكي يكون العمل في الـمُحصِّلة متماسكاً في جسده الذي تأسَّس على فكرة نقطة انطلاقه الأولى؟ قد يجذبك الفيلم ويجرفك من بدايته الى نهايته مُستمتعاً بكلّ ما تشاهِد وتَسمَع، ولكن عندما "تروح السَّكرة وتيجي الفَكْرة"، فإنّك تصحو من هذه الـمُشاهدة الشَّبيهة بالحلم الجميل أو ربّما بالكابوس الضّاغط على صدرك، وتبدأ بامتحان وعيك عمّا شاهدَته، وهل هو في مجمله قد يكون مصاباً بالتَّشوّش، او مربِك او مسيء، او مفيد لما فيه ممّا عُرض في مجمله، ومَدى توافقه مع فكرك الـمُسبَق اجتماعيّاً وسياسيّاً، وبخاصّة أن الفيلم يتطرّق الى موضوع آكتوآلي حسّاس وخطير.
قصّة فيلم "صالون هُدى" باختصار:
تدور أحداث الفيلم عن "هُدى" الفلسطينيّة العميلة لدى المخابرات الإسرائيليّة وهي سيّدة صاحبة صالون نسائي، فتستغلّ عملها بقيامِها بتخدير بعض زبوناتها من النّساء الفلسطينيّات، بحيث تقوم بتصوير كلّ منهنّ وهي عارية الى جانب رجل عارٍ كي يبدوان في الصّورة بأنّهما يمارسان الجنس. تختار "هُدى" نوعيّة خاصّة من النّساء اللواتي يعانين من مشاكل مع أزواجهنّ، فتُسلِّم هذه الصُّور للمخابرات الإسرائيليّة، بحيث تستغلّهنّ في محاربة مقاومي الاحتلال، ولِزَرْع بذور الشِّقاق بين أبناء الشَّعب الواحد؛ بينما يبقى الجنود والمخابرات خلف الجدار مرتاحين من هذه المهمّة، فيوكلونها الى الفلسطينيّين بأنفسهم، ما يؤدّي الى التَّصفيات والإعدامات التي يبدو إحداها قمّة في الوحشيَّة بواسطة صَبّ البانزين على العميل وحَرقه حتى التّفحّم والموت.
إحدى زبونات صالون "هُدى" وهي "ريم" أم لطفلة، تتعرّض للتّخدير، ويتم تصويرها عارية بعدّة أشكال الى جانب رجل عارٍ، وكأنّما هي تمارس الجنس معه، تُستغلّ من أجل إسقاطها كما حدث مع باقي الزّبونات من قبل، فتتورّط بين محاولتها أن تُبَرِّيء نفسها أمام أهلها وأمام المقاومة الفلسطينيّة، وبين أن تضطرّ للوقوع في فخّ المخابرات الإسرائيليّة التي تشرّط عليها إمّا التَّعاون أو نشر صورها وفضح أمرها أمام الـمَلَأ، وعندما يضيق الخناق عليها تحاول الانتحار، ولكنّها تنجو بالصّدفة، وتبقى قضيّتها معلّقة الى نهاية الفيلم، بينما يقوم "حَسَن" المحقِّق الذي يعمل مع المقاومة بمعرفة أسماء النِّساء اللواتي أُسْقِطن لكي تستفيد المقاومة من معلوماتهنّ حول مخابرات الاحتلال وحول العملاء، ومحاولين معرفة مدى ما وَصَلوا إليه من عمالة، ويعلن الـمُحقّق أنّه سيحاول إقناعهم بالانضمانم الى المقاومة، لمساعدتهم لكي يقفوا الى جانب شعبهم، بعد أن تتمّ محاسبتهم بناء على مدى خطورة تعاملهم مع العدوّ.
إنّ قوّة دراميّة هذا الفيلم في الصّراع الذي يدور حوله موضوعه كامنةٌ في أنّ الرِّجال والنّساء المـُسقَطون والـمُسقَطات ظُلماً أو بإرادتهم في شِبَاك المخابرات الإسرائيليّة يقعون بين فكّي المقاومة التي تسعى جاهدة لعدم تَغلغُل العُملاء داخل المجتمع الفلسطيني لما يسبّبونه من دَمَار وضعف وتفريق وانتقام وقتل، وبين الفخّ الذي نُصب لهم متورّطين بين أن يتعاملوا مع العدوّ، او أن يتمّ فضحهم عن طريق تهديدهم، بأنّهم إذا زاحوا عن الخطّ المخابراتي الإسرائيلي المرسوم لهم، فإنّهم سيتعرّضون إما للقتل او للهروب من محيط مجتمعهم الى مكان أكثر أمانا، وبخاصة أنّ ما قد يُنشر عنهم يتعلّق بتُهمة العمالة او بصُوَر وڤيديوهات تفضح عرضهم، كأتّهامهم بالعمل في الدّعارة، وبين هذا وذاك، فإمّا الإعدام، او نبذهم من المجتمع الذي يعيش تحت الاحتلال. هذا موضوع غاية في الحساسيّة والخطورة والأهميّة، فهو بالنّسبة للغالبيّة من الشَّعب يُقيَّم بناء على النَّاحية الوطنيّة والسّياسيّة الأخلاقيّة والعادات والتَّقاليد وسائر القيم التي ينتهجها هذا المجتمع.
البطل النّقيض السَّلبي، وغياب الشّخصيات المناضلة:
إنّ نقطة الانطلاق التي يثير الفيلم قصّته من خلالها، تدور حول قضيّة شائكة مُربِكة ومركّبة، فيها شخصيّات فاعلة بمستويين: شخصيّة المخابرات الإسرائيليّة، وشخصيّة المقاومة الفلسطينيّة التي تحاول أن تمنع تَغلغُل العملاء في فترة الاحتلال واختراقهم للمقاومة، وللمجتمع بشكل عام، من أجل إضعافه وتفكيكه. ضمن هذا السِّياق لم تكن شخصيّة المخابرات الإسرائيليّة التي هي السَّبب الأساسي وراء وقوع هذه الأحداث الخطيرة على حياة الشّعب الفلسطيني وعلى قضيّته العادلة. بقيت شخصيّة جيش إسرائيل-حسب التّصريح المـُـعلَن في الفيلم- مخفيّة خلف الجدار تُراقب أناساً يقومون بتصفية بعضهم البعض، وبِتَواجُدٍ خَفيٍّ لعملائها ومخابراتها، وهم يَنْغلون نَغلاً داخل جسد المجتمع الفلسطيني، سَعياً لتدميره والقضاء عليه. اعتبر المؤلّف أنّه على الـمُشاهد أن يتمتّع بكمّيّة كافية من الذّكاء والوعي السّياسي والوطني والتّحليلي لكي يستنتج أنّ شخصيّة المـُسَبِّب لهذه الكارثة ولهذا الوضع، ألا وهو الاحتلال، يلعبها من خلف الكواليس، بينما لم يفطن المؤلِّف بأنّ ترك الـمُشاهد يضع جلّ تفكيره في الشّخصيّات الفلسطينيّة الفاعلة وهي في معظمها سلبيّة، وفيما ندر منها إيجابيّة، إنّما هو بذلك يُنسي المشاهد ويُلهِيه عن الشّخصيّة الأساسيّة والرئيسيّة التي لم تُعالَج ولم تظهر بتاتاً طوال الفيلم، ألا وهي شخصيّة الاحتلال ومخابراته.
ما أساء فهم المقصود من الفيلم أنّ الطَّرف الذي يُمثِّل شخصيّة المخابرات الإسرائيليّة بقي جانبيّاً، لا بل اكتُفِي بتَسمية شخصيّة حَلقة الوصل من طرف المخابرات بشخصٍ اسمه "موسى"، ما يزيد الأمر غموضاً وارتباكاً وإرباكاً للمُشاهد الذي لا يلمّ بالكثير عن قضيّتنا الفلسطينيّة والسّياسيّة، وقد يَبقى في حدود فَهم أنّ جميع هذه الشّخصيّات هي فلسطينيّة ولا علاقة أساسيّة للإسرائيليّين بكل ما يحدث من مصائب متراكمة من وراء هذا السّرد الحكائي لتسلسُل الفيلم، وبخاصة أنّ الفيلم ليس مُسلسلاً عربيّاً موجَّها لجمهور عربي محدود ضمن جمهور متكلّمي اللغة العربيّة، بل هو مصنوع لكي يُعرض عالميّاً لكل النّاس، وليشارك في مهرجانات عالميّة، حيث جمهوره غير واعٍ لتفاصيل الحكاية المعروضة، وأنّ إسرائيل رابضة فيه بكل قُوّتها من وراء الجدار وداخله، وتتحكّم بخيوط اللعبة بكل ما أوتيت من قوّتها الاحتلاليّة الاستيطانيّة الرَّهيبة. هذا لا يَخفى على الـمُشاهد ابن القضيّة الفلسطينية والعربيّة الواعي لقضيّته، ولكنّ الـمُشاهد الـمُعبّأ بفكر مغلوط عن قضيّتنا، والذي شَوَّهته الدِّعاية الصّهيونيّة سيَفهَم أنّ الفلسطينيّين إرهابيّون، وأنّ إسرائيل أرحم منهم بكثير حتى ولو كانت محتلّة لفلسطين؛ هذا إذا كان هذا الـمُشاهد يعترف بأنّ هنالك شيء اسمه فلسطين، وأُفْهِم أنّ الخارطة تغيّرت وأصبحت إسرائيل هي مكان فلسطين.
لم يدَّعِ صانعو هذا الفيلم أنّه وثائقي، بل ذُكر في مقدّمته أنّه مستوحى من أحداث واقعيّة. هو ليس مستوحى فقط من أحداث واقعيّة من الواقع، بل هي أحداث مُنتقاة جزئيّاً من الواقع، وتعطي صورة جزئيّة، وتغطّي جزءا من الواقع، وهذا ليس عيباً لأنّه ليس مطلوبا من الأعمال الفنّية أن تحكي عن كلّ القضيّة بكلّ تفاصيلها، ولكنّها بدت مبتورة وغير متكاملة، وتؤدّي الى إسقاطات مُربِكة وسلبيّة في الحبكة وفي المجمل العام للعمل، على الرَّغم من محاولة المؤلّف/المخرج إضفاء صبغة إنسانيّة على شخصيّاته التي يَعتبر أنّه انتقاها من الشّخصيّات المـُتورّطة في قضايا أكبر منها تقودها الى الضّياع أو الهروب من بيئة مجتمعها، إمّا للاحتماء بالأقوى وهو الاحتلال، او الهروب بعيدا عن مجتمعها وعن الاحتلال، او الانتحار.
إنّ الصُّورة المعروضة الـمُستوحاة من مُجمل ما يقدّمه الفيلم عبارة عن اختيار نماذج لشخصيّات معظمها تمثّل شرائح سلبيّة في المجتمع الفلسطيني، ما قد يُعطي صورة عامّة عن القضيّة الفلسطينيّة وكأنما هي الصّورة الوحيدة التي تمثّلها، او أن النّماذج التي اختيرت، وكأنّما هي تُرسِّخ في ذهن الـمُشاهد، وكأنّ هذا هو الجوّ العام السّائد، وأن هذه الشّرائح الـمُتمثّلة بهذه الشّخصيّات هي مَن تُمثِّل مُجمَل الحال، كما ادّعى صانعو الفيلم بأنّها مُستوحاة من الواقع. وحتى صورة المقاوِم الفلسطيني الذي تتعرّض حياتُه للخطر في كلّ لحظة، بدا بقسوته في طريقة إعدام أحد العملاء شبيهاً بشريحة القَتَلة الوحوش الدّاعِشيّين الذين يؤدّي تصرّفهم الى النُّفور منهم بدلاً من التَّضامن مع سموّ ثوريتهم وعدالة قضيتهم، وأنّهم على استعداد للتّضحية بأنفسهم فيما اذا اختاروا هذا الطّريق، بدلاً من أن يهتمّوا بشؤون حياتهم الشّخصيّة، وفي المقابل فإنّ دَهاء الـمُستعمر يجعلك، بواسطة وسائله الإعلاميّة، أن تظنّ أنّه هو الضّحيّة، وأنّ المقاوم هو القاتل، بينما في الحقيقة يكون الاحتلال هو القاتل الأكبر، لا بل إنّه يمشي في جنازة المقتول الذي هو قاتله و"لا من شاف ولا من دري"، ويتابع في اتّهام الضّحيّة بأنّها هي التي سبّبت لنفسها بأن تُقتَل، ويقوم بالتَّشكيّ للعالم بأنّه بريء، مُنتهجا مبدأ: "ضربني وبكى سبقني واشتكى".
المقاوِم الذي سيُفْهَم أنَّه إرهابي:
ظهر "حَسَن" المـُحَقِّق من قِبَل المقاومة خلال التّحقيق وهو يستعمل أسالبيب التَّحقيق ذاتها التي يستعملها محقّقو المخابرات الإسرائيليّة مع الفتيات بتهديدهن باغتصابهن او بتعذيبهن او بقتلهنّ اذا لم يعترفن ويدلين بالمعلومات المطلوبة منهن، وهكذا فبدلاً من تصوير هذه الطّريقة التي قد يستعملها المؤلف/المخرج، والـمُستوحاة من واقع المحتلّ لكي يُظهر مدى وحشيّته، انتقلت هذه الوسيلة من التَّحقيق لكي تُبعَد عن مستعمليها الحقيقيّين، وتُلصَق بكل وحشيّتها ولا-إنسانيّتها بشخصيّة الـمُحقِّق من طرف المقاوَمة.
والأبشع من ذلك، فقد ظهر "حَسَن" بكامل الصّورة المأخوذة عن الإرهاب عندما أمَر بحرق الشَّاب الذي شارك في صور التَّعرية مع النّساء المـُسْقَطات. وبما أنّ الموضوع المطروق آكتوآلي ومستوحى من الواقع، فسيقفز الى ذهن المـُشاهد، وبمساعدة فكره الـمُسبَق، المشهد المعروف لكل العالم عن إحراق "تنظيم داعش" للطيّار الأردني بنفس الطّريقة وهو داخل قفص، ما يوحي للمشاهد بأنّ المقاومة الفلسطينيّة مُتوحِّشة وهَمجيّة مثل داعش، ولن يخطر ببال الـمُشاهد بأنّ لجوء المقاومة الى هذا النّوع من التَّصرُّف والعقاب نابع من الحاجة لردع النّاس عن العَمالَة مع العدوّ، فيُسقِط عنها بذلك مفهوم المقاومة الثّوريّة، ويلتصق بها مفهوم الإرهاب المتوحّش. هذا لا يعني أنّ المقاومين لم يقوموا فعلاً وفي الواقع بعمليّة إعدام مشابهة لأحد العملاء بهدف ردع كل من تسوّل له نفسه أن يصبح عميلا، ولا يعني أنّه في الواقع لم يتمّ إسقاط نساء بالشّكل الذي عُرض في الفيلم، ولكنّ نَقْلَ الواقع كما هو بمشاهد مُتتابعة بدون التَّوقّف لمعالجة كافية لمجمل القضيّة بأنّ شخصياتها الفاعلة في الفيلم هي جميعها فلسطينيّة، ولا دخل للاحتلال بما يتصرّفونه فيما بينهم، من منطلق، وكما جاء في الفيلم على لسان "هُدى" أنّ: "المجتمع اللي بيمارِس الظّلم على حاله سهل يحتلُّوه". اكتفى الفيلم بالتّطرّق الى ذلك على أساس أنّ ما نحن غاطسون فيه هو من صُنْع أيدينا، فالطَّرف الآخر الذي هو سببُ بلائِنا بسبب وجوده، وخانقاً لوجودنا، لن يتمّ معالجة وجوده في الفيلم سوى وضعه جانباً خلف الجدار يتفرّج عمّا نفعله بأنفسنا من منطلق أنّنا نبدو وكأنّنا نجلد ذاتنا بسبب سيِّئاتنا، مع أنّ سبب بَلْوانَا الأولى هو وجوده مع مخطّطاته واستيطانه واحتلاله ورُبوضه القاتل فوق صدورنا. صحيح أنّنا بحاجة الى محاسبة ذواتنا على علّاتنا، ولكن التَّوازن بين هذا وذاك مطلوب. استثناء أهميّة هذا العنصر في قصّة تدور أحداثها في جغرافية معروفة وفي زمن محدَّد وآكتوآلي يجعل الـمُشاهِد صاحب الفِكر الـمُسبق يُعيد حساباته بعد مشاهدته للفيلم.
وأيضاً، وفي الوقت ذاته، وهذا ما هو واضح في الفيلم، فإنّنا واعون أنّ قوّة ما، ألا وهي المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيليّة، هي التي تخطِّط وتوجِّه وتدير وتحرِّك في الخفاء هذه اللعبة القذرة للأشخاص المشاركين قسراً أو بإرادتهم من أجل توريطهم، ولم يكن هؤلاء المتورّطون ليفعلوا ذلك لولا وجود هذا الشّيطان الاحتلاليّ المخابراتيّ المتوحّش.
لم يُترك ولو للقليل من بعض النَّقاء الوطني والثَّوري لدى بعض شخصيّات الفيلم لكي يُشعرنا بأنّ الصّورة العامة بمجملها فيها بعضٌ من الأمل والكرامة والنَّقاء والوطنيّة الصّافية. حتى هذا المحقّق "حَسَن" اعترف بأنّه انضمّ للمقاومة لأسباب شخصيّة وليس عن وعي ثوريّ مصقول.
الدّوافع الشّخصيّة للشّخصيّات هي التي حدّدت مواقفها:
وحسب الفيلم أيضا فإنّ "حَسَن" قائد التّحقيق من قبل المقاومة يَظهر كمناضل مُطارَد ومَطلوب من قِبل المخابرات الإسرائيليّة، وقد اعترف أمام "هُدى" بأنّه انضمّ الى صفوف المقاومة بدافع الانتقام لصديقه "مُهنَّد"، الذي كان "حَسَن" سبباً في قَتْلِه، وكَتَكْفيرٍ عن ذنبه تجاه صديقه بعد أن وشَى به للجيش الإسرائيلي بعد أن تعرَّض "حَسَن" للضّرب، مما اضطره الى الكذب واتّهام صديقه بأنّه هو الذي قذف الدَّبْشَة باتِّجاه سيّارة الجنود، ما جعل الجنود يقتلون صديقه "مهنّد". إذن أحيانا هنالك دوافع شخصيّة تَدفع الإنسان للانضمام للمقاومة، وليس أن يكون ذلك بالضّرورة نابعاً عن دوافع ثوريّة وطنيّة.
دوافع خيانة "هُدى" ركيكة:
وكذلك "هُدى" عبّرت عن لجوئها للتَّعامل مع المخابرات من مُنطلق شخصي، انتقاماً من علاقتها السّيئة مع زوجها، بينما في الواقع هي مَن ضُبطت وهي تخونه مع رجل آخر.
حَسَن:- ليش خُنْتِ شعبك شو السَّبب؟
هُدى:- مَسَكُوني مع واحد غير جوزي، وهدّدوني، يا الفضيحة عَ الذّبح عند جوزي، يا
العَمَالة.
حَسَن:- ليش تخوني جوزك من الأول؟
هُدى:- ليش انت بتعرف جوزي؟ جرِّب عيش معه يوم واحد وارجع لي.
حَسَن:- فيه مائة طريقة وطريقة تخلعيه بالحلال، وتتجوّزي كمان مرّة بالحلال.
هُدى:- ليش وين مفكر حالك عايش في السّويد؟
حَسَن:- يمكن صحيح مجتمعنا بدُّه نَفض، بسّ حلّ الغلط مش بالغلط.
هُدى:- وانت عم بتحلّ الغلط بالغلط، بدّك تعاقب بنات أنا مذنبه فيهم... انا اللي كنت اختار البنات. اخترت كل واحدة بيكون جوزها خَرا.
تتبجّح هُدى أمام الـمُحقِّق "حَسَن" بأنّها أرادت ان تُنقذ بنات جنسها من أزواجهنّ الظّالمين، وأنّها تشجِّعهن بأن تكون لديهنّ قوّة مادّيّة ومعنويّة، تعطيهنّ نوعاً من الاستقلاليّة. ربّما تسعى "هُدى" لإسقاط النِّساء بدافع انتقاميّ او عن جهل، وتقف أمام "حَسَن" الذي يقوم بدور المـُحقّق المخابراتي من طرف المقاومة الفلسطينيّة، محاوِلةً بكل جرأة ووقاحة، وبدون خوف من أنّها ستُعدم، فتنظر في وجهه بكل ثقة تفوق شجاعة المناضلات الثَّوريّات اللواتي يُقدِّمن أرواحهن شهيدات كُرمَى للوطن ولفلسطين. موقف عبثيّ جدّاً. بينما اللواتي يُسقَطهن عن طريق تهديدهنّ بفضح عرضهنّ يبدون مَرعوبات من مَغبّة انكشاف ما حدث لهنّ قَسْراً وليس بإرادتهنّ، ما يصل بهن الى البحث عن ملاذ إمّا بالانتحار او بالهرب الى حيث لا يعلمن الى أين، أو ينتظرن لحظة قتلهنّ، أكان ذلك من قبل المقاومة الوطنيّة او من قبل المخابرات الإسرائيليّة، أو من قبل مجتمعهنّ الذي لا يعلم أنّهنّ مظلومات وبريئات مِمَّا اتُّهِمْنَ به، لأنّ حقيقتهنّ لم تُكشف إلّا أمام "هُدى" صاحبة الصَّالون، ومن قِبَل مُشغِّليها من المخابرات الإسرائيليّة.
ولكنها هنا هي مَن تقوم بإنقاذهنّ من ظلم أزوجهنّ لكي تُقدّمهنّ ذبائح للاحتلال، وتُعرِّضُهُنَّ لخطر القتل من مجتمعهنّ الذي سيظنّ أنَّهنَّ عميلات وأُسقطن بإرادتهنّ، وإبقاء سرّ إسقاطهنّ القسري عن طريق التَّخدير لكي يُعرُّوهنّ ويصوّروهنّ، ومن ثمّ خداعهنّ وابتزازهنّ. لم يكن هدف "هُدى" تحريرهنّ من ظالميهنّ، بل إنّها تسلّمهنّ من ظالمين الى أظلم منهم. إنّها معادلة انتقاميّة سلبيّة وقاسية، وغير مبرَّرة لِنَقل صورة شموليّة لنموذج لم يكن مقابله شخصيّة المرأة الـمُناضلة التي تستشهد من أجل وطنها، وهو النّموذج الذي غاب كلّيّاً عن الفيلم، بل بقيت الأحداث تدور في فلك الشّخصيّات السَّلبية، بما يشبه تعصُّب المؤلف لأسلوب الاكتفاء بالبطلة النَّقيضة السّلبية، ومحاوَلَة التَّأكيد على أنْسنَة موقِفِها السَّلبي بسبب الظّروف الضّاغطة عليها من أجل كَسرِها وإضعافها.
كأنّما يوازي المؤلّف بينه وبين الدَّوافع الشّخصيّة لــ"هُدى" ولسائر الفتيات اللواتي تعاملن مع المخابرات الإسرائيليّة، او اتُّهِمْن بذلك، فتَصَرّفْنَ أيضا لدوافع شخصيّة. تقول هُدى لـِ"حـَسَن": "وأنا تصرّفت لنفس السّبب اللي انت ضَحّيت فيه بحياة صاحبك مُهنّد. لـمّا بتتوقَّف عَ حياتك وحياة غيرك ما كانش عندي خيار". وفي هذا القول تعبير عن الضّعف الإنساني عند الـمَحكّات الصّعبة عند تخيير الإنسان بين الحياة والموت، ولكنّ هذا لا يبرِّر لجوءَها بشكل منطقيّ لاتّخاذ موقف احتمائها بالمخابرات الإسرائيليّة بسبب خلافها مع زوجها وخيانته مع غيره، بحجّة أنّها تحتمي بمن هم أقوى منه، فتوافق على التّعامل معهم. لا بل إنّها تقول لـ"حَسَن" خلال تحقيقه معها وبكل وقاحة، بدون أن تشعر ولو بقليل من التَّراجع والشّعور بالذّنب. تبدو كأنّها شهرزاد التي تُخلّص بنات جنسها من الموت على يد شهريار، بينما هي هنا تظنّ أنّها تسحبهنّ من يد "عزرائيل" لتسلّمهن الى "قبّاض" الأرواح، اي المخابرات الإسرائيليّة. في ذلك تلميح غير سويّ وغير منطقيّ للمُنتسِبات للحركة النِّسْويّة، وهي نزعة رائجة في الغرب وتنتشر تدريجيّاً في مجتمعاتنا، مع وعينا للفرق الشّاسع بينهنّ وبين موقف "هُدى" الهَدَّام.
هُدى:- شُغْل البنات مع المخابرات أعطاهم قوّة يوقّفوا قُدّام جيزانهم. صاروا يتصدُّوا لجيزانهم
بسّ حَسُّوا في القوّة"
حَسَن:- يعني من خلال تعاملهم مع العدو؟
هُدى:- أيّْ عدوّ.. المجتمع اللي بيمارس الظُّلم على حاله سهل كثير يحتلّوه.
أخطر ما في التّركيز على هذه الشَّريحة من النِّساء المتمثّلات بشخصيّة "هُدى" في هذا الفيلم يوحي بالتّغاضي عن أنّ السُّقوط بالعَمالة على هذا الشّكل لم يؤدِّ الى تحرُّر النّساء من أزواجهنّ، بل وصل الأمر ببعضهنّ في تعريض أزواجهنّ المناضلين والمقاومين والثَّوريين للإعدام بأبشع الصّور من قبل المخابرات الإسرائيليّة، كما حدث للمناضل الشّهيد "ابراهيم الرّاعي" على سبيل المثال لا الحصر. صحيح أنّ الفيلم من وراء سطوره يلمّح الى أنّ مَن يتصرّف هكذا يكون مصيره الدمار والهلاك، ولكنّه أيضا يلمّح الى أنّ إنسانيّتهنّ تشفع لهنّ بما يفعلونه.
هُدى- أنا بس كنت أحاول أساعد حالي وأساعدهم.
حَسَن- تساعديهم عَ خراب بيتهم يا هُدى؟ انت مفكّري انّك بتعملي مليح مع بنات لـمّا
بتْعَرِّيهم؟ انت عَرِّيتيهم من غير إرادتهم. اللي عملتيه أصعب من الاغتصاب، لأنّه هنّي عَمْ بمُرقُوا كلّ يوم الاغتصاب من جديد، وفوق كل هذا انت عايشة بوَهْم. لو انت شجاعة كان بتعترفي انّك سبَّبتِ ألم لكثير ناس ومنهن هذول البنات...انت مش أوّل ولا آخر ضحيّة في العالم، بسّ اللي زيِّك استغلوا الظُّلم اللي كانوا عايشينُه تَ يتنَصّلوا من المسؤوليّة. انت مش بسّ أَهملتِ اولادك، وانتقمتِ من جوزك، انت جِبْتِ لهم العار.
هنا تنهار "هُدى" ويظهر ضعفها، وكأنّها شعَرت بدَمار بيتها وحياتها، وشعرت بورطتها أمام منطق الـمُحقّق "حَسَن"، الذي أوصلها الى حقيقة خطأ تَصرُّفها مع اولادها، وخطورة قرارها الذي أوصلها الى عمالتها مع المخابرات.
حَسَن:- شو أحسن لهم (القصد عن النّساء المـُسقَطات) بإيدينا والّا بإيديهم؟ (القصد عن المخابرات الإسرائيليّة)
هُدى:- اوعدني انكو ما تِئْذُوهن.
حَسَن:- بأكّد لك انّه لما يكونوا عنّا، احنا من خلالهم رايحين نوصل للحقيقة.
هُدى:- "ريم" بريئة. ما عملت ولا اشي. بَشْعُرْ حَالي فيها.
هنالك موقف يطرحه "حَسَن" يوضّح من خلاله وجهة نظر المقاومة التي تلجأ الى الاقتصاص من العُملاء من مُنطلق وطني وثَوري، وموقف آخر يُبرِّر الأسباب التي يُضعِف بعض النّاس أمام الضُّغُوط السّياسيّة الـمُتراوحة بين الانتماء الوطني، او الرّضوخ لشروط الاحتلال. بعض الحوارات الواردة في الفيلم تُعبِّر بقوّة عن هذين الموقفين المتضاربين. يقول حَسَن: "وجود العملاء والخونة، في مجتمعنا بالزَّبط مثل وجود السَّرطان في جسم الإنسان. الكيماوي مزبوط بقتل خلايا بريئة ما لهاش ذنب ولا دخل بالخلايا السَّرطانية، بسّ بالنّهاية كلّنا بنتأمّل بالكيماوي إنُّه الجسم يتعافى".
الحوارات بين "حَسَن" و"هُدى"، والتي تشكّل قسطا ًكبيرا من الفيلم، كان لها مدلولات قويّة، وبخاصّة أنّ "هُدى" في النّهاية وصلت الى شبه الاعتراف بمدى تورُّطها فيما اختارته من تعاملها مع العدّو ومخابراته. وهي حوارات فيها الكثير من الإيجابيّة لصالح الفيلم لأنّها في مجملها توصل درساً لمـَن تُسوِّل لهم أنفسهم الانخراط في هذه اللعبة بأنّها لعبة خطيرة وقاتلة وتتنافى مع قضيّتنا العادلة، عند اتّخاذ المواقف المبدئية والإنسانيّة والأخلاقيّة. هذه الحوارات فيها نوع من التَّحذير المـُبطّن للمُشاهد بأنّ سلوك طريق التّعامل مع العدوّ لن يؤدّي في نهايته إلّا الى معاداة أهلك وأبناء شعبك، بل إنّه طريق خطير جدا وغير إنساني، وسيؤدّي الى الخيانة والخلاف والتشّتّت والدّمار والقتل والهلاك.

مشهد تعرية "ريم" والشّاب "الموديل":
شاهدتُ نسخة الفيلم مع مشهد تَعرية "ريم" بعد تخديرها من أجل تصويرها مع الشّاب "الموديل" العاري، وشاهدتُه مرّة أخرى في موقع آخر بدون مشهد تَعْريتها. هذا المشهد يشكّل نقطة الانطلاق الأقوى التي اعتمد عليها الفيلم فيما كان يرمز اليه من معنى استغلال الجسد الآدمي كموديل من أجل الحصول على مُنتَج جديد يستغلّه مشغّل الموديل لكي يحصل على هدفه النِّهائي من هذه العمليّة، وهو ما يوحي رمزيّاً الى الاستغلال الجسدي، أكان ذلك لأنثى أو لذكر، من أجل تنفيذ عمليّة "الإسقاط" بمعناها المضمونيّ والمخابراتيّ والأخلاقي والسّياسي والاجتماعيّ. بدت "ريم" جزءا من حالة "الپُوز pose" وهي تنطبق على الحركة التي تُتّخذ أمام الرّسام لكي يرسم صاحبها، وهي المعنى ذاته لإحدى حركات الجهوزيّة لممارسة الجنس، ولحالة الاغتصاب في هذه الحالة. هذا المعنى المزدوج أُعِدَّ بذكاء من أجل الهدف الذي بُنيت عليه الفكرة بمجملها من حالة جسد هذه الـمسكينّة المـُعتدَى عليها بما يُشبه تجهيزها من أجل اغتصابها جسديّا ومعنويّاً. لم يدلّ على أي إيحاء جنسي او إغرائي، بل وآمل أن يكون المخرج/ المؤلف قد قصد ذلك، ففيما بدَت عليه "ريم" بجسدها العاري، أظهر صورةً في قمّة الرّمزيّة والقوّة والوضوح والرَّهبة. بدت خلال تحضيرها لمشهد التّعرية والإلباس كــ"المانيكان"(دمية عرض الملابس)، وبدا جسدُها أقرب الى الشُّحوب، وكالجُثّة الهامدة التي يتمّ تحضيرها للدَّفن، وهي دلالة قويّة جدّاً إنسانياً ودراميّاً وسينمائيّاً وشكليّاً على مدى فَداحة وخطورة الوَرطة التي أوقعوها بها، لدرجة أنّها ستُصبح بعدها كالأموات، وإن هي عادت الى الحياة من نومَتها بعد تخديرها، فقد تكون عُرضةً للموت عن طريق القَتل او الانتحار، وهذا فعلاً ما حاولَتْه وأخفَقت به لاحقاً، بينما ذَكَر الفيلم أن امرأة أُخرى غيرها قد انتحرت فعلاً بعد أن تعرّضت لمحاولة الإسقاط.
كذلك فإنّ فكرة أنّ هذا الشَّاب الذي تمّ حرقه يعمل "موديل"، اي يتعرّى أمام الرَّسَّامين لكي يرسموه، هذا من جهة، وبين تَعْرِيَة امرأة بهدف إسقاطها وابتزازها جنسيّاً لكي توافق على العمل مع المخابرات الإسرائيليَّة من جهة أخرى، تبدو فيها صورة "الموديل" في صورته عارياً وهو الى جانبها عاريةً، كأنّ اللوحة تُعبّر عن الموديل المطلوب، فهو في قمّة شُذوذه بالنِّسبة لـِمُجتمعه الذي لم يتعوّد بعد على هذا النّوع من المهنة الفاضحة للجسد ولعُريِه ولـ"عورته!"، وهي المـُعَرَّاة قَسراً بواسطة تخديرها تبدو في عُريها الفاضح وقد بانت جميع "عوراتها!؟" الجَسديّة، وكأنّما هي أصبحت في كامل جُهوزيّتها لكي يُمارَس الجنس معها، أكان ذلك بإرادتها أو بغير إرادتها، كما حدث للنَّماذج اللواتي اسقطتهنّ "هُدى" صاحبة الصالون. وفي المحصّلة تتمّ محاسبة "ريم" من قِبَل الكثيرين على أساس أنّها هي المـُذنبة، وهي التي تستحقّ العقاب، وسيُنظَر الى مَن جعلوها في الفيلم توافق على التَّعرّي من أجل تصوير هذا المـَشهد، كأنّها تخدم الفُحش وتمارس المـُحرَّم وتتعامل كعميلة للمخابرات الإسرائيليّة، بدون التّفكير ولو للحظات بأنّ هذا الأمر يقوّي من مضاعفة كونها مظلومة وضحيّة، وبحاجة للتّضامن معها هي الأم المخلصة والمضحّية من أجل زوجها وطفلتها، والمتصالحة مع عائلتها، وليس تعريضها للنَّبذ وربّما للإعدام، أو لتشديد الخناق عليها، ما قد يدفعها للانتحار، وعندها يصل الظّلم ضدّها الى أَوجِهِ.
لم نعُد نقيس نظرتَنا الى الشّخص العاري، أكان رجلاً او امرأة، كجسد مُتَخيَّل، وكمحرومين من مشاهدته والتَّعرّف على تفاصيله وعلى تركيبته التَّشريحيّة المادّيّة، وليس كما خُيّل إلينا من قِبَل الدّاعين لإبقائه ضمن المـُحرَّمات والعَورات، ولا بكمال جماله كما خَيّلوا لنا الحوريّات في الجنّة. نحن لا نستطيع إنكار دور وسائل الميديا الحديثة التي أتاحت، وبوفرة لا حدود لها، لكلّ مَن سوّلت له نفسه وحبّ استطلاعه وشغفه البحث بسهولة، ومشاهدة هذا الجسد البشريّ في جميع حالاته وصوره وتصرّفاته التّشريحيّة والجنسيّة والرُّسوماتيّة والصُّوريّة والڤيديوهاتيّة والسّينمائيّة، وكل ما قد يخطر ببال أيّ إنسان محبّ للمعرفة وللاستطلاع وحتى للتّلذّذ، ما يوصل الى درجة الإشباع ومعرفة كل ما كان مستوراً وغائباً عنه، إلّا بالخيال والتَّخيُّل. لا أحد يستطيع الإنكار بأنّ ذلك قد أصبح موجوداً بغزارة ومتاحاً بحرّيّة للكبار وللصّغار.
إذن، علينا أن لا نجعل هذا المشهد في المجمل هو كل ما أثار مشاهديه، فمشهد التَّعرية بدا كالقَشّة التي قصمت ظهر بعير الفيلم لدى عيّنة معيّنة من مشاهديه او من السّامعين عنه، لأنّ النُّقطة الرئيسيّة التي انطلق منها الفيلم جعلته يتطوّر مع أحداثه وتسلسله وحبكته وسرده نحو إسقاطات سياسيّة ووطنيّة أحاديّة النّظرة السّلبية عن طريق شخصيّات سلبيّة؛ بدا الفيلم محاولاً باستماتة لكي يُبرّر لهذه الشّخصيات تصرّفها لدواعٍ إنسانيّة، يتحمّل مسؤوليتها المجتمع أولا، وثانياً الاحتلال الذي ترك هذه الشَّخصيّات تتخبّط في محيطها، حيث يُكسِّر الفُخَّار بعضَه بعضاً. إنّ مأزق الوقوع في إغراءات قوّة دراميّة الأحداث الآكتوآليّة في منطقة ملتهبة في نيرانها الوطنيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاحتلاليّة تتطلّب الكثير من الحَذر لعدم السّماح للصّيغة الدراميّة الإبداعيّة بشكلها ومضمونها أن تكون هلاميّة وضبابيّة، لا بل مُثيرة للشّكّ وللتّشكيك وللارتباك، وللنُّفور منها، فهنالك فرق كبير بين الجرأة المعتمدة على التّوجّه الوطني الثّوري الواضح، وبين التّلميح الغامض الذي يميل الى جَلد الذّات او التَّرميز المـُربِك، وتحميل الضّحيّة وزر أفعالها، بدون التّنبّه الى أنّ وجودها لفترة طويلة تحت قبضة الاحتلال، لا يجعلنا نتغاضى عن الشّخصيّات التي تتحمّل بثوريّتها وبوطنيّتها مُهمّة محاربة هذا الاحتلال، وهذا ما لم يتجسّد في الفيلم.
الجريمة التي اقتُرفت في حقّ "ريم" أقوى بكثير من اختصار موقفنا أخلاقيّاً من كونها ظهرت عارية، فهي أمّ لطفلة رضيعة، وهذه الطّفلة تعيش مع والديها اللذين يحبّان بعضهما البعض، ومن خلال سعي المخابرات لإسقاط هذه الأم بواسطة "هُدى" العميلة، هو سعي لتدمير حياة أُسرة بكاملها، وستُثار حولها الشُّبهات، وفي المحصّلة سيصبّ كلّ ذلك في صالح الاحتلال الذي يراقب ما يجري لمن يقع عليهم احتلاله من خلف الجدار، وهو مرتاح بأنّ هذا العدوّ الفلسطيني يقوم بتصفية أبنائه بأقلّ خسائر من طرف الاحتلال، او بدون أدنى حاجة لتدخّل جنوده وشرطته، معتمداً على ذكائه الـمُخابراتي، معتمداً فلسفة "فُخَّار يكسِّر بعضه"، و"حادت عن ظهري بسيطة".
*راضي شحادة- مسرحيّ وروائي وباحث فلسطيني.
****





 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]